رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وصيَّة فرَّقت الأحِبَّة

ربما لا يكفي الحب وحده في نشر الألفة والمودة بين الناس، فقد يحتاج إلى بعض الحكمة في تطبيق قواعده وتثبيت أركانه، فبدون الحكمة قد يقتل الحب صاحبه، كما قتلت الدبة صاحبها حين بالغت في حبه وحمايته من تطفل الذبابة.

ونرى ذلك بوضوح في مسلسل "الأصلي"، الذي يتم عرضه حاليا على قنوات التليفزيون، فقد حرصت الابنة "ريهام عبدالغفور"- بالرغم من أنها ليست الابنة الكبرى- على تنفيذ وصية والدها حبًا فيه وإكرامًا له بغض النظر عن الإجحاف الواضح بالوصية، فنراها تتمادى في تطبيق هذا الحب لدرجة أنها جعلت من نفسها وصية على قرارات إخوتها في كيفية التصرف في ميراثهم خشية ضياعه، فكانت النتيجة أن حرمتهم من الميراث كي لا تتفكك مملكة "الأصلي" بدافع الحب الذي قد يقتل صاحبه أو ينشر العداوة والفرقة بينه وبين أقرب الناس إليه .

فالوصية ليس غرضها أن تخلق الخلافات بين أطرافها، أو يترتب عليها القطيعة، خاصة صلات الرحم، لأنها إن فعلت ذلك فإن عدم تنفيذها يكون تصرفا حكيما.

فقد لمست بنفسي معاناة سيدة فاضلة أحبت زوجها لدرجة إصرارها على تنفيذ وصيته التي بدت جائرة، وكان للسيدة ولدان وبنتان، الولد الأكبر بار بهما ولا يؤخر عليهما طلبا ويمنحهما الكثير من الهدايا والرعاية والمال، أما زوجته فكانت ودودة حلوة المعشر، بينما الولد الثاني كان متعثرا يقترض كثيرا من والده ولا يرد ما اقترضه، ثم تزوج رغما عنهما من فتاة ظهرت حقيقتها الغائبة عنه بعد شهر واحد من الزواج، فكانت لا تحترم أحدا من عائلته وتسب أباه وأمه أمام عينيه ولا يستطيع ردعها لضعفه نحوها.

وقد حدث أن اقترض الابن الأكبر من والده لأول مرة ثم نشأ خلاف بسيط بينهما قبل وفاته، فكانت وصية الأب التي فاجأت الجميع بأن يُخصم ما اقترضه الابن الأكبر من ميراثه، بينما يحصل الابن الثاني على ميراثه كاملا دون خصم ديونه المتعددة لدى الأب، ونصحها المقربون من الأهل بألا تُطلِع الولدين على الوصية وأن تسامح الاثنين في سداد ما اقترضاه أو يتم تحصيل الدين من كليهما، فالمساواة في الظلم عدل، لكنها رفضت وأصرت على تنفيذ الوصية بحذافيرها، وكانت النتيجة نشوب خلافات شديدة بين الأم وولديها أدت إلى انصراف الاثنين عنها.

الابن الأكبر انصرف عنها بدافع الغضب ورؤيته أنه لا يستحق منهما ما حدث وأنه كان تحت أقدامهما بارا طوال العمر، أما الابن الأصغر فقد تمادى في طلباته وطمع في المزيد من الميراث، فلما رفضت انصرف عنها أيضا، وبالطبع لا أبرر لأي منهما انصرافه عن أمه مهما كان السبب، ولكننا في الغالب نفاجأ بردود أفعال متباينة من الأشخاص القريبين الذين نعتقد أننا نعرفهم جيدا، ردود أفعال تبدو مختلفة عما تعودناه منهم ومعاكسة تماما لطبائعهم، وذلك عند تعرضهم للظلم أو الإهانة من وجهة نظرهم.

ولذلك نجد في قضايا الرأي العام أن يطالب الجمهور القضاء بأن يتعامل مع المتهم بروح القضاء وليس بسيفه، ونجد أيضا كثيرا من المجتهدين في التفقه في الدين يحثون علماء الدين على الأخذ باليسر في أحكام الدين وليس التشبث بأغلظها، لذا فإن الحكمة في تناول الأمور يعدل كفة الميزان، فلو أن الأم تزينت بالحكمة في طاعتها لزوجها وحرصها على تنفيذ وصيته، لكانت نفذت الوصية بشكل لا يفرق بين الإخوة، كأن لا تعلن عما بالوصية كي لا تثير الأحقاد بين الأخوين، وفي الوقت نفسه تحاول تسديد دين الابن الأكبر من مالها الخاص مثلا حتى لا تظلم البنات ولا تثير حفيظته ضد أبيه وأخيه، وكذلك في مسلسل "الوصية" كان يمكن للابنة شراء مودة إخوتها وإقناعهم برغبة أبيها دون اللجوء للتحايل والمؤامرات والحب الأعمى، وذلك حتى لا تصبح الوصية في النهاية سببَّا في قطع الوصال وكسر الخواطر.