رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رسائل العين السخنة

فى عالم السياسة فإن كل حدث وراءه رسالة، وكل تصرف وراءه معنى، وكل فعل وراءه رسالة.. فى ضوء هذه القاعدة يمكن فهم افتتاح مجمع الأسمدة الكيماوية فى العين السخنة صباح الأمس.. إن أولى الرسائل وراء هذا الافتتاح أن الدولة المصرية ماضية فى زيادة أصولها اللازمة للتنمية.. وبالتالى فإن أى إجراء اقتصادى لزيادة نسبة المشاركة أو لجذب مزيد من الاستثمارات أو لتقوية البورصة المصرية كوعاء استثمار.. لا يعنى إطلاقًا أن الدولة تبيع أصولها أو تتخلى عنها.. بالعكس الدولة تزيد أصولها باطراد وعلى أحدث النظم الاقتصادية والصناعية.. وهى ربما تتخلص من القديم الذى لم يتطور لتتيح الفرصة لبناء الجديد على أحدث النظم والإمكانات العلمية.. وهذه نقطة مهمة لإفساد موجات التضليل والادعاء بأن الدولة تبيع أصولها عن خبث وسوء نية حينًا، وعن جهل وحسن نية حينًا آخر.

من رسائل الأمس أيضًا أن الزراعة هى اختيار استراتيجى لمصر.. وأنها أداة أساسية فى التنمية وأننا قررنا أن نأكل مما نزرع، وأن نقلل ما نستورده لأقصى حد ممكن.. وأننا نتعامل مع القضية كقضية أمن قومى.. بعد سنوات طويلة كان يتم فيها التعامل مع الزراعة من منظور تجارى وتبنى أشهر وزراء الزراعة فى التسعينيات نظرية زراعة الفواكه كبديل للمحاصيل الاستراتيجية لأنها أغلى ثمنًا.. حتى أسمته بعض الصحف المعارضة لسياسته «وزير الكنتالوب».. وقد أثبتت الأيام خطأ التعامل مع قوت المصريين بمنطق «البيزنس».. وفى ضوء النظرة الجديدة للزراعة فقد انطلقت الدولة فى سباق لاستصلاح ما يزيد على أربعة ملايين فدان فى وقت واحد، سواء عبر إعادة إحياء مشروع توشكى أو عبر مشاريع «الدلتا الجديدة» و «مستقبل مصر» والتوسع فى شرق العوينات.. وهذه كلها أراضٍ تحتاج لمليارات الأطنان من الأسمدة بمواصفات خاصة، ولعل هذا يفسر لماذا تقدم الدولة عبر قواتها المسلحة على التوسع فى هذه الصناعات الاستراتيجية مع إتاحة الفرصة للقطاع الخاص للمشاركة عبر صيغ مختلفة ومتنوعة.

من رسائل الأمس أيضًا التأكيد على أن تعمير أرض مصر هو اختيار استراتيجى حتى لو كلفنا استثمارات ضخمة فى البداية.. فمصر تنظر لقضية التنمية كاستثمار بعيد المدى.. ودونه فسينفجر الوادى والدلتا بزحام المواليد الجدد الذين يضافون لإجمالى التعداد كل عام.. وفى سيناء مثلًا فإن التعمير خيار استراتيجى وأمنى وتنموى أيضًا.. لذلك تستثمر مصر ملايين الدولارات فى إنشاء محطات المعالجة الثلاثية للاستفادة من مياه الصرف فى رى آلاف الأفدنة فى سيناء ولتأمين احتياجات مصر من المياه.. هذه الاستثمارات بالمنطق التجارى أو بمنطق «الكنتالوب» قد تبدو تكلفة زائدة أو «خسائر تجارية»، لكنها بالمنطق القومى والسياسى والتنموى استثمارات لا غنى عنها فى المستقبل، وستحصد فوائدها الأجيال الجديدة من المصريين وليس العكس كما يشيع البعض.

من رسائل الأمس أيضًا أن مصر واعية للغاية بفكرة الصناعة كقيمة مضافة للثروات الطبيعية المحدودة التى تملكها.. فصناعة الأسمدة تعتمد بالأساس على الغاز الطبيعى وغيره من الخامات الطبيعية التى تملكها مصر وتحويل الغاز لأسمدة يعنى أن تربح مصر أضعاف أضعاف ما يمكن أن تربحه لو باعت الغاز فى حالته الطبيعية، وهذه هى فكرة القيمة المضافة فى الصناعة.

من الرسائل أيضًا أن مصر ماضية فى خطتها للتوسع فى الصناعة والزراعة بعد ما بنت البنية الأساسية اللازمة من محطات طاقة وطرق ووسائل نقل حديث ومدن جديدة ذكية.. فكما أعلن الرئيس فمصر تستهدف استثمار ثمانمائة مليون دولار لتأسيس مصانع فى مجالات استراتيجية تملك فيها مصر ميزات نوعية وتحتاج لتعويض صادراتها منها ثم البدء فى التصدير.. وفى مجال الزراعة تسابق مصر الزمن للانتهاء من استصلاح ثلاثة ملايين فدان كى تساهم حاصلاتها فى سد الفجوة الغذائية الموجودة حاليًا. 

وتبقى الرسالة النهائية وهى أن الصناعة هى الجواد الاقتصادى الرابح وكما يقال فإن ميزانية بعض الشركات الصناعية الكبرى على مستوى العالم تفوق ميزانية كثير من الدول المتوسطة بل الغنية أيضًا.. فالمنتج الصناعى القادر على المنافسة عبر أسواق العالم هو مصدر ثروة لمن ينتجه وهو لا يقل فى هذا عن أى مصدر ثروة طبيعى مثل الغاز أو البترول أو الذهب.. ولو نظرنا لمصانع الأسمدة الستة التى تم افتتاحها سنجد أنها جزء من قلعة كبرى للصناعات الكيماوية تضم سبعة وأربعين مصنعًا مختلفًا للصناعات الكيماوية منها مصانع للغازات الطبية وأخرى للأسمدة وثالثة لمنتجات كيميائية أخرى، وبالتالى نحن نتحدث عن قلعة صناعية حقيقية لا مجازًا وهى كلها أصول مملوكة للدولة المصرية ورصيد استراتيجى لها وهى جزء من صورة مشرقة من حيث القدرة على الإنتاج والنجاح والإضافة للناتج القومى.. والمعنى أن الصورة ليست سوداء كما يحاول البعض أن يصور.. رغم اعتراف الجميع بأن هناك أزمة.. لكن الأزمات ليست نهاية العالم.. وهى تبدأ لتنتهى وإلا لما حملت وصف أزمة.. وبالتالى لنا أن نفخر بما تحقق ونواصل الليل بالنهار لتحقيق المزيد والمزيد وسنستطيع تحقيقه بإذن الله.