رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيد درويش وسعد زغلول: حكاية فنان وسياسي من الحرب العالمية للحن المجهول  

سيد درويش
سيد درويش

«يا عزيز عيني.. وأنا بدّى أروّح بلدى.. ليلة نمت فيها وصحيت ما لقيتشى بلدى.. بلدى يا بلدى ويا عينى على بلدى».. «سالمة يا سـلامة رحنا وجينا بالسلامة.. صفّر يا وابور واربط عندك نزّلنى فى البلد دي.. بلا امـــــيركا بلا اوربـــــــا مافى شئ احسن من بلدى.. دى المركب اللى بتجيــــــب احســن من اللى بتــــودى..يا اسطى بشندى».

يجمع المؤرخون الأجانب والمصريون ممن أرخوا لتاريخ الحرب العالمية الاولى (1914 _ 1918 )  أن كلمات هاتين الأغنيتين لسيد درويش ترسم وعيًا متزايدًا بظلم إجبار المصريين على المشاركة في صراع لم يكن لهم دور فيه ، كما ترسم بدايات وعي متزايد بظلم تجنيد المصريين فى الحرب العالمية الأولى.. وهو ما تغافل هؤلاء المؤرخون أن وراء الكلمات قصة أخرى لم يتحقق منها أحد منهم سوى المؤرخ العسكرى والطبيب المتخصص فى تاريخ الحرب العالمية الأولى أشرف صبرى فى حوار صحفى أجريناه معه ونشر بجريدة "الدستور".. إلا هي أن سيد درويش كان مطلوباً للتجنيد الإجباري للمشاركة فى الحرب بعد القبض عليه وتسليمه ملابسه العسكرية حتى يتوجه إلى مالطا مع الفرق الذاهبة للحرب هناك من المصريين.

سعد زغلول | Cairo
سعد باشا زغلول

ما حدث هو أن عددًا من المصريين عندما علموا بذلك توجهوا إلى الزعيم سعد زغلول لكى يتدخل؛ وبالفعل ذهب «سعد» إلى مأمور القسم كى يمنع سفر سيد درويش، لكونه مغنى مصر الوطنى الأول آنذاك.

بالفعل، تم الإفراج عن سيد درويش كى يستمر فى تقديم أغنياته المحفزة للشعب المصرى، واستمر ذلك بالفعل حتى إنه قدّم أغنيات ضد الحرب ذاتها، مثل أغنية «وينجت»، التى كانت من بين أغنياته الممنوعة، وكان يغنيها فى حفلاته السرية وقتها.. ترى ما طبيعة العلاقة بين سيد درويش(1892_ 1923) وسعد زغلول (1858م - 1927م)؛ هذا ما نكشف عنه فى مئوية وفاته.

سيد درويش

عند إندلاع الحرب العالمية الاولى كان سعد زغلول فى سن السادسة والخمسين، وكان سيد درويش فى سن الثانية والعشرين من عمره، كان الأول لم يمر على تركه منصب وزيراً للحقانية (العدل) سوى عامين  بعد أن استمر في هذا المنصب من 23 فبراير 1910 إلى 1 أبريل 1912 فى عهد عباس حلمي الثاني؛ اما بالنسبة لدرويش لم يكن مر على عودته من الشام  سوى شهور قليلة قبل إندلاع الحرب العالمية الاولى (28 يوليو 1914 وانتهت في 11 نوفمبر 1918)؛ حيث بقى فى الشام منذ عام 1912 حتى عام 1914 حتي يتقن أصول العزف على العود وكتابة النوتة الموسيقية، فبدأت موهبته الموسيقية تتفجر، ولحن أول أدواره يا فؤادي ليه بتعشق.

The Great Theft of History: The Egyptian Army in the First World War –  Khaled Fahmy

بعد إنقاذ سعد زغلول سيد درويش من الذهاب الى الحرب العالمية الاولى لم يكن يملك الأخير سوى التعبير عن مشاعر الألم التى تسببت فيها الحرب وهو ما ورد فى المذكرات المعاصرة للسياسيين المصريين إلى النظر إلى "أنشطة التجنيد الإجرامي" التي حدثت في المحافظات؛ حيث جند البريطانيون مئات الآلاف من الفلاحين المصريين لإرسالهم إلى الحرب - ما يقرب من ثلث السكان الذكور في مصر الذين تتراوح أعمارهم بين 17 و 35 عامًا - على أنها بداية حركة وطنية أدت إلى ثورة 1919، وكذلك حالة الجدل السياسي الذى كان مستمرًا في ذلك الوقت حول الطرق التي استدرج بها البريطانيون الفلاحين، باستخدام عملاء محليين  لـ "التطوع" للانضمام إلى القوات سوى بالغناء وهو ما دفعه الى كتابة عدد من الاغنيات عن الحرب وويلاتها ودعم سعد زغلول منقذه الأول وبداية لأكبر ثورة فلاحية في القرن العشرين، والتي سمحت لسعد زغلول وعلي شعراوي بالاستفادة من الإدارة البريطانية في المفاوضات.

Patriotism, Arts, Women Liberation in Egypt's 1919 Revolution | Sada Elbalad

يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح

يا بلح زغلول يا زرع بلدي

عليك يا وعدي يابخت سعدي

زغلول يا بلح يا بلح زغلول

يا حليوة يا بلح يا بلح زغلول

عليك أنادى فى كل وادى

قصدي ومرادي

Artworks-000038776642-jupwu0-t500x500.jpg

كلمات ألفها بديع خيرى، ولحنها سيد درويش، وغنتها زينب محمد إدريس الشهيرة بـ نعيمة المصرية (1894_ 1976)، بعدما أشتدت ثورة 1919 وأصبح كل شعب مصر يهتف في الشوارع والميادين والمدارس والمساجد والكنائس يحيا سعد، حيث لم يجد الإحتلال البريطاني وقتها مفرا ولا حلا إلا باصدار القائد العام البريطاني أمرا عسكريًا بالسجن ستة أشهر مع الشغل وجلده عشرين جلدة، لكل من يهتف أو يذكر أسم الزعيم الوطني سعد زغلول أو يردد "يحيا سعد" ولو كان طفلا، فقام سيد درويش بتأليفها، فأصبح الشارع المصري بكل طوائفه ينشد الأغنية في الشوارع وكلما رأي جندي بريطاني ليثير غضبه يغني "يا بلح زغلول يابلح".. إلا انه مع ورود أنباء حول عودة سعد زغلول من منفاه وفي قرابة منتصف ايلول سنة 1923 سافر سيد درويش الى الإسكندرية ليكون في استقباله وليحفظ طلاب وطالبات المدارس النشيد الذي لحنه لاستقباله والذى يعد لحناً مجهولاً لم يكشف عنه الى اليوم، ولكنه أصيب بنوبة قلبية مفاجئة في مساء 14/سبتمبر ومات فجر 15/سبتمبر في بيت شقيقته.

وفي وسط الاحتفالات الشعبية المهرجانات الوطنية المقامة في الإسكندرية لاستقبال سعد زغلول لم يشعر أحد بوفاة أعظم عبقرية مصرية ظهرت في العصر الحديث وشيعت جنازته في احتفال متواضع لم يشيعه فيه الا عدد قليل جداً من أهله وأصدقائه.