رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مسلسل «بالطو» مثلًا

النجاح الذى صادفه مسلسل «بالطو» وهو من إنتاج الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية يصلح مثالًا للحديث عن دور الفن الجيد فى خوض معارك المجتمع ونشر الوعى دون مباشرة أو ادعاء أو خطابة أو حوارات «مقالية» يكتب فيها كاتب الحوار مقالات مطولة عن حقوق المرأة مثلًا.. أو غير ذلك من القضايا التى ينتحلها بعضهم ليسرق بها فرص غيره من الموهوبين فى كتابة السيناريو ومستغلًا حاجة المجتمع الملحة لنشر الوعى فى قضايا اجتماعية متعددة تلوث وعى الناس فيها عبر العقود الماضية بفعل انتشار التطرف وانحسار العلم وسيطرة التخلف والرجعية إلى غير ذلك مما نعرفه جميعًا.. وأظن أن مسلسل «بالطو» ونجاحه يصلح حالة مثالية لدراسة أسباب نجاحه وإعادة تكرار هذه الملابسات مع أعمال أخرى.. ولعل أولى هذه الملابسات أن صناع المسلسل كلهم من الشباب فى منتصف ونهاية العشرينات أو بداية الثلاثينات على الأكثر.. وهم يعبرون بلا شك عن جيل مواليد التسعينيات وما بعدها الذين يمثلون ما يزيد على عشرين مليونًا من المصريين إن لم يكن أكثر بحساب جمهورهم من مواليد الألفية والعشرية الأولى منها.. هؤلاء بكل تأكيد أكثر تعليمًا من الأجيال السابقة بحكم ثورة المعرفة والإنترنت.. وأكثر وعيًا بالعالم.. وأكثر قدرة على السخرية من مفارقات الواقع الأليم.. وأكثر قدرة على التعلم المباشر من آلاف الأعمال الفنية المتاحة على الشبكة العنكبوتية بكل اللغات ومن كل الأجناس.. وبالتالى فنحن محتاجون لفتح الباب للمبدعين من هذه السن ليحتلوا مساحة أكبر بحكم تواصل الأجيال وبحكم طبائع الأمور وبحكم أن المبدعين من مواليد السبعينيات قد نالوا فرصتهم كاملة وحصدوا كل نجاح ممكن وبالتالى لا بد من إتاحة الفرصة لأجيال جديدة أحدث تستطيع مخاطبة الجيل «زد» من مواليد الألفية وما بعدها.. ولعل ثانية ملابسات النجاح أننى متأكد حد اليقين من أن صناع مسلسل «بالطو» ليس لهم أى علاقة مباشرة بالوسط الإنتاجى كانت هى الدافع لإتاحة الفرصة لهم.. فمؤلف المسلسل الطبيب «أحمد عاطف فياض» أحد مشاهير السوشيال ميديا منذ سنوات طويلة.. حيث يملك قدرة مدهشة على السخرية من مفارقات بعض الأعمال الدرامية القديمة التى أعدت على عجل.. معبرًا عن حساسية جديدة ونوع جديد من السخرية مرتبط بمقاطع الفيديو المتاحة على «يوتيوب» والإتاحة التكنولوجية التى لم تكن متاحة لجيل الساخرين الأوائل مثل محمد عفيفى ومحمود السعدنى، والذين اعتمدوا على الكتابة فقط.. والمعنى هنا الكاتب موهبة عبرت عن نفسها وطرحت نفسها فى السوق المتسعة فالتقطتها جهة الإنتاج ووظفتها فى عمل جيد لاقى نجاحًا كبيرًا وهو نموذج ينفى مبالغات لها ظل من الحقائق عن الشللية التى تحكم الوسط الفنى وإتاحة الفرص بناء على معرفة مسبقة أو شخصية أو قرابة مع بطل المسلسل أو حتى جهة إنتاج ما.. ولعل نفس ما ينطبق على مؤلف المسلسل ينطبق على مخرجه، وهو حفيد أستاذ الكوميديا المصرية فؤاد المهندس، ولا شك أن له دورًا رئيسيًا فى صنع المسلسل وإنضاج طبخته وتوظيف كل عناصره وإدارتها على أكمل ما تكون الإدارة.. لأنه يجمع بين الاستعداد الطبيعى الوراثى وبين الدراسة المتميزة وبين الخبرة العملية.. وهذا هو بالضبط النموذج الذى تحتاجه مصر فى كل المجالات.. وما ينطبق على المخرج والمؤلف ينطبق بكل تأكيد على بطل المسلسل الشاب الذى كان مفاجأة للكثيرين وأنا منهم.. حيث تعبر طريقة تمثيله عن ثقافة عميقة وفهم لدور الفن ووعى بالطرق غير المباشرة للتعبير بحيث لا يبدو الممثل فجًا أو مصطنعًا أو باحثًا عن الضحك المباشر والرخيص.. على العكس تمامًا تقمص بطل المسلسل روح السخرية المبطنة والخافتة تاركًا المساحة للمشاهد ليسخر هو بصوت أعلى من صوت الممثل وينفعل مع كوميديا الموقف بدرجة أعلى من انفعال الممثل الذى فتح الباب للمشاهد ليسخر بنفسه ولم يضحك نيابة عنه..

وإذا كانت هذه كلها ميزات للمسلسل يجب تحية صناعه عليها وتحية الشركة المنتجة أيضًا فإن أعظم ميزات المسلسل هى عدم المباشرة فى طرح قضيته الأساسية وهى الصراع بين العلم والخرافة وبين الطب والشعوذة وبين الطبيب والدجال.. وهذا الصراع فى مجمله هو الصراع الرئيسى فى مصر منذ أكثر من قرنين حتى الآن.. وقد عبر عن نفسه فى حادثة محاولة أحد طلاب الطب فى مدرسة الطب بأبى زعبل ١٨٢٧ اغتيال «كلوت بك» أبو الطب المصرى لأنه أقدم على تشريح جسد آدمى بغرض تعليم الطلاب.. حيث ظن الطالب أن هذا مخالف للشريعة فحاول قتل أستاذه الذى يعلمه لكى يكون طبيبًا يشفى المصريين من آلامهم الكثيرة جدًا وقتها!.. عرض المسلسل بخفة ظل ومنطقية فى الأحداث وبسلاسة مدهشة وقائع الصراع بين الطبيب والدجال، وكيف يمكن استغلال طبيعة المصريين الطيبة فى إفشال أى محاولة للإصلاح وإظهار المصلح وكأنه غريب عن المجتمع الذى يريد إصلاحه وخارج عن نواميسه العشوائية.. فالمؤامرة على الطبيب أمام جهات التفتيش لم تتم إلا بعد اقتحام عشرات من المواطنين العشوائيين الوحدة الصحية ليحولوها لسوق كبيرة وكأنهم يشاركون جميعًا فى المؤامرة على هذا الطبيب «رمز التحديث والعلم» حتى دون أن يقصدوا.. أما ما يستحق التحية أكثر فهو واقعية صناع العمل.. فالخرافة لم تنهزم والدجال لم يعاقب.. بل إن أنصاره استخدموا واقعة إنقاذ الطبيب لحياته ليوحوا بأنه عاد من الموت لأنه صاحب كرامات خارقة.. وهى نهاية واقعية تؤكد أن المعركة ما زالت طويلة للغاية وأن أنصار العلم والتقدم أمامهم الكثير والكثير من العمل.. وفى النهاية لا أملك إلا تحية صناع العمل والمطالبة بمزيد من الفرص لمبدعى هذا الجيل وفق نسبة مئوية تضعها جهات الإنتاج فى اعتبارها اتساقًا مع منهج تمكين الشباب الذى تتبناه الدولة المصرية فى جميع المجالات، ومن الواضح أننا نرى بعض ثماره الطيبة فى هذا المسلسل وغيره قريبًا جدًا بإذن الله.