رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سعد عبدالرحمن.. العتاب والغفران                                             

حتى ١٢ فبراير كان الشاعر سعد عبدالرحمن ينشر صوره فى فيسبوك مبتسمًا بكامل صحته بجوار أصدقائه، وبعد عشرة أيام تقريبًا فى ٢٥ فبراير توفى سعد دون إعلان أو كلمة عن مرض أو جراحة أو أزمة صحية مفاجئة، رحل خفيفًا، مثلما قضى حياته كلها خفيفًا. 

تجنب سعد عبدالرحمن فى رحيله الأضواء والضجيج كما فعل على امتداد حياته التى عاشها يعمل بصمت وعفة نفس، وفارقتنا النظرة الطيبة التى أطل منها عتاب مهذب مشبع بالغفران لم يفصح عن جوهره يومًا. غادرنا كأنما نسمة كانت تدور حولنا واختطفها الهواء فجأة، فلا أنت تصدق ولا أنت تعقل. 

التقيت سعد عبدالرحمن للمرة الأولى بالمصادفة من نحو عشر سنوات، وكان فى حينها رئيس هيئة قصور الثقافة. حدث ذلك حين كان أحد الأصدقاء على موعد معه، وقال لى: «سألتقيه لعشر دقائق ونواصل طريقنا». وفضلت حينذاك ألا أدخل مكتب رئيس الهيئة لنفور غريزى فى نفسى من المناصب الرسمية. جلست فى الخارج حتى خرج صديقى يرافقه سعد عبدالرحمن الذى لمحنى فأقبل علىّ يصافحنى، وأصر على أن ندخل من جديد لنشرب قهوة. فى ذلك الوقت كان سعد قد أصدر عددًا من الدواوين الشعرية وعددًا كبيرًا من كتب الدراسات الأدبية، لكنه طوال جلستنا لم يشر إلى نفسه أو شعره أو كتبه بحرف ولم يقدم لى ديوانًا من تأليفه! أدهشنى ذلك لأن عادة الكتّاب أن يدوروا حول أنفسهم وأخبار كتبهم، بل إنه على العكس من ذلك سألنى باهتمام عن مقالات كنت أنشرها فى أخبار الأدب، وقال لى: «لماذا لا تحضر لنا دواوين الوالد عبدالرحمن الخميسى لننشرها هنا فى الهيئة؟». لم أذهب بدواوين والدى إلى الهيئة، لكن تواضع سعد عبدالرحمن، ونكرانه ذاته، جعلانى أفكر أنه ليس موظفًا فى الأجهزة الثقافية يتصور بحكم منصبه أنه شاعر، لكنه شاعر بالفعل ساقته الظروف إلى الوظيفة. أسرتنى شخصيته المحبة، المهذبة، والنظرة الطيبة التى يطل منها عتاب مهذب على القدر أو البشر. 

رحل سعد عبدالرحمن قبل أن يتم عامه السبعين، وترك خلفه حكايات كثيرة وقد كان رئيس هيئة قصور الثقافة الوحيد الذى قرر الاجتماع بالمثقفين والأدباء فور توليه منصبه، لكى يستشيرهم فى خطة الهيئة، وطالبهم بدعم الهيئة بكتبهم ومقترحاتهم. وترك سعد حكايات كثيرة عن نزاهته، وتعففه، منها أنه كان يدفع من جيبه فى مؤتمرات الهيئة مكافآت الشباب بلا خصومات، ثم يقوم بتحصيلها لاحقًا بعد الخصم منها. 

وكان سعد أحد أعمدة النهضة الأدبية فى مسقط رأسه أسيوط، وظل يكافح وهو رئيس الهيئة حتى حل أزمة قصر ثقافة المحلة القائم فى مبنى أثرى حاول البعض أن يستولى عليه بكل الوسائل، وقد ترك الشاعر الراحل العديد من الكتب منها ثلاثة دواوين شعر بعناوين «حدائق الجمر»، و«النفخ فى الرماد»، و«المجد للشهداء»، وكتاب بعنوان «التعليم المصرى فى نصف قرن»، وكتب أخرى تتجاوز عشرين إصدارًا متنوعًا ما بين أعمال فكرية ودراسات عن الآداب. وفى العام الماضى ٢٠٢٢ نشر سعد ثلاثة كتب جديدة هى: «الموسيقى والغناء فى حياة العقاد»، و«مقالات قصر الدوبارة تاريخ المصريين»، و«نزيف الكمان» ديوان شعر، ولم يمهله الموت المفاجئ لكى يستلم نسخ كتابه الصادر للتو: «فى مديح الهامش» عن مدينته أسيوط. عاش خفيفًا، ورحل خفيفًا، وترك وراءه جبلًا من المعرفة ونموذجًا لشخصية إنسانية نادرة المثال، أشبه ما تكون بجهاز انتباه لحاجات الآخرين. تبقى فى نفوس من أسعدهم الحظ وتعرفوا إليه.