رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أولاً.. استمعوا لآخر المتحدثين

حضرت مؤخرًا أمسية ثقافية ناقشت عملاً أدبيًا حديثًا صدر من تأليف صديق، و كعادة مثل هذه الفعاليات،  التي صارت أحد مصادر المعرفة بالنسبة لي، أجد خلالها آراء متباينة، وأفكارًا متجددة ، وتوجهات عديدة، وعقولاً مفكرة . فيها ألتقي برموز كبيرة من الوسط الثقافي والأدبي، ومن خلالها أطّلع على أحدث الإصدارات لأعوض ولو شيئًا يسيرًا من تقصيري في حق نفسي بالتفريط في  مداومة القراءة ومتابعة أفكار المبدعين ورؤاهم، وسط مشاغل الحياة و ضغوط العمل و ضيق الوقت. 
   وكعادة مثيلات تلك الندوة الفكرية استمعت لمقدمة مدير الندوة ثم لمداخلتين في منتهى الجدية إحداهما بدت كمحاضرة أكاديمية ألقاها المحاضر دون أن يراعي مستوى الحضور الثقافي فطالت مدتها نسبيا واستخدم مفردات النقد الأدبي التي لا يفهمها إلا زملاء المتحدث من أساتذة الجامعة من قبيل: "البنيوية، الرصيد اللغوي العام، البرناسية والعبثية .. إلخ". في حين كان المتحدث الثاني أكثر قربًا من الشارع وأكثر استيعابًا لفكرة التعامل مع نص أدبي في حضرة جمهور عام و ليس مجموعة من كبار المتخصصين أو طلبة في كلية الآداب في مرحلة الدراسات العليا. و أخيرًا كان صاحب العمل المطروح للنقاش هو آخر المتحدثين على المنصة فبسّط الأمور و علق على ما طرحه الأستاذان، و أعرب عن اندهاشه من هذا الاستقبال الحافل لعمله الإبداعي.
     ثم أعطيت الكلمة للحضور. و كعادة مثل هذه الندوات يختلف حال المتحدثين من القاعة بين راغب في الظهور لمجرد إثبات الحضور، أو باحث حقيقي عن المعرفة، أو  شخص يرى أنه كان الأجدر بأن يكون على المنصة مناقشا للمبدع صاحب العمل وليس مجرد متابع تسمح له المنصة بمداخلة لا تتجاوز الدقيقتين في نهاية الندوة، أو مثقف آثر الانزواء ليحقق استفادة حقيقة من حضوره و حين فاته ما يريد استيضاحه أو حين أراد أن يحول دفة الحديث لزيادة إثراء الجلسة طلب المداخلة.
     همي الشخصي في كل تلك المداخلات يكون منصبًا على المداخلة الأخيرة في نهاية كل ندوة . تسألني لماذا؟ أقول: لأن المتحدث الأخير غالبًا ما يكون من الشباب بأفكارهم العبقرية أو بشطحاتهم الإبداعية التي تفتح آفاقًا جديدة، و تثير جدلاً مفيدًا للحضور كافة. إيماني الشخصي بجيل الشباب في كل القطاعات أصبح من المسلمات بالنسبة لي. فحتى لو كان لهذا الشاب أو ذاك شطحات فكرية عبّر عنها في مداخلته فهي في النهاية مدعاة لإثارة التفكير وتحريك العقل وجذب الانتباه بمستوى صوت مختلف، وبحماس حقيقي غير مفتعل، وبرغبة صادقة في التعلم والاستفادة. 
     وهذا هو ما حدث حين طلب الكلمة شاب ثلاثيني فتحدث بإيجاز ولكنه اتجه مباشرة نحو الهدف، بل إنه فتح محورًا جديدًا وهامًا للحوار لم يتطرق إليه جل المتحدثين رغم قيمتهم الفكرية والإبداعية الكبيرة، مما حفز الأديب المحتفى بإبداعه للرد بإسهاب و حوّل دفة الحديث لوجهة أخرى كانت تكفي وحدها كمحور رئيس للحوار في تلك الأمسية الإبداعية.
    أذكر أنني كنت- في شبابي- زائرًا دائمًا لأحد المراكز الثقافية القريبة من منزلي، وهناك أضفت إلى عمري أعمارًا كثيرة هي نتيجة طبيعية لما حصّلته من خبرات التقطتها من بين أحاديث المفكرين والمبدعين الذين كانوا ضيوفا أو حتى حضورًا- مثلي- لنشاط هذا المركز. وقد عرفت قيمة هذا التواجد في حياتي المهنية حيث مصادر كبيرة يمكنك التعرف عليها بسهولة والاطلاع على أفكار جديدة ومتابعة نظريات وفلسفات لكبار المثقفين. ولا يمنع أن تصطدم بشخصيات سيكوباتية، أو مدّعين للثقافة، أو أصحاب فكر معوج و آراء مشتطة. وكل هذه مضادات تحصنك من الانحراف الفكري في مرحلة البدايات.
    كنت يوما- بعد تخرجي بنحو عامين- أحد حضور ندوة في ذكرى رحيل الأديب والآثاري الراحل كمال الملاخ ، وأتذكر أنها كانت في جمعية الشبان المسيحية . حاولت طلب الكلمة، و طبعا كانت الأولوية لمن هم أكبر سنًا ومقامًا وشهرة وأقرب للراحل المحتفى به. وهذا منطقّي فعلا، فهم كانوا أكثر دراية بشخص الملاخ و لهم معه ذكريات تروى. ولكنني كنت حريصًا على أن أتداخل، وقد منحت لي الكلمة كآخر المتحدثين وهنا ألقيت قصيدة زجلية من تأليفي- حين كنت أكتب شعرًا- عن الملاخ أتذكر أنها كانت تتحدث عن واحد من أهم إنجازاته، وهو اكتشافه مراكب الشمس. واستملح الحضور الكلام وربما الأداء حتى إن أحدهم قال لي بينما الجميع يغادر: "برافو عليك، أنت كنت قريب من المرحوم للدرجة دي؟" في حين أنني لم أتشرف بلقاء الملاخ يومًا.
    الشاهد في الأمر، أنني ومنذ تلك الواقعة صرت أقدّر تمامًا آخر المتحدثين، وألتفت لما يقولون ، و غالبا لم يخب ظني فيهم. فآخر المتحدثين وهم غالبًا الأحدث سنًا و الأقل شهرة ، يكونون هم الأكثر حماسًا، والأقوى إيمانًا بما يقولون، والأشد رغبة في التعلم. ولذلك تبقى وصيتي لمن يحضرون مثل تلك الأنشطة الثقافية أو الفكرية أو الفنية أن امنحوا لآخر المتحدثين انتباهكم بذات القدر الذي تتعاملون به مع أشهر الأسماء الموجودة على المنصة، فأنتم بالتأكيد ستجدون عنده ما يصعب أن تجدوه عند غيره من المتحدثين وهو الصدق والتلقائية وعدم وجود حسابات تجعله يفكر كثيرًا في تداعيات ما يقول من كلام وما يطرح من أفكار. وهنا أقول استمعوا لآخر المتحدثين أولا، بمعنى: امنحوهم اهتمامًا يوازي اهتمامكم بكلام أول وأشهر المتحدثين.