رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الوالى يعانى من «التدين الشكلانى»

إذا كان الوالى محمد على قد بدا «قدريًا» يتخذ من الدين «بشارة» وهو يسعى إلى الحكم، وظهر «عمليًا» وهو يستخدم الدين فى إدارة البلاد بعد أن جلس على كرسى الحكم، فقد اختار بُعدًا «وعظيًا» وهو يوظف الدين فى خدمة مشروعه التحديثى الإمبراطورى.

مثّل الوجه الوعظى أكثر أوجه الإسلام فائدة بالنسبة للوالى فى هذه المرحلة، خصوصًا بعد لجوئه إلى الاعتماد على العنصر المصرى كرصيد بشرى يمكن أن يؤسس عليه مشروعه، أدرك الباشا أن الدين يشكل رافدًا أساسيًا من روافد الثقافة العامة للمصريين، وأنه أحد العوامل المتدخلة فى تشكيل هويتهم، وأحد المغذيات لفضيلة طاعة الحاكم لديهم. كان الوجه الوعظى هو الاختيار الأمثل والأنفع من بين وجوه الدين بالنسبة للوالى، فهو يقدم شكلًا اختزاليًا للدين، يلخصه فى مجموعة من النصائح والتوجيهات المعنوية التى تحث على القيم والأخلاق وخلاف ذلك، وهو أيضًا الوجه الذى يمنح المساحة لاستحضار دور الحاكم فى خدمة الدين والدفاع عن بيضته أمام أعدائه، وهو كذلك يركز على الجانب المظهرى أو الطقوس التعبدية فى الدين، مثل الأدعية والصلوات، دون اكتراث بأثرها فى سلوكيات الفرد أو علاقته بالآخرين أو أدائه فى الدنيا.

«رفاعة الطهطاوى» أشهر واعظ فى عصر محمد على. فكما تعلم كان «الطهطاوى» على رأس أولى بعثات محمد على إلى أوروبا لدراسة العلوم المدنية، وكانت وظيفته الأساسية إمامة أفراد البعثة فى الصلاة، والقيام بخطب الجمعة، بالإضافة إلى إلقاء المواعظ، لم يوجه الوالى رفاعة الطهطاوى للقيام بأكثر من وظيفة «الواعظ»، والجهد الذى قام به الرجل فى تدوين ملاحظاته وانطباعاته حول ما رآه فى رحلته إلى أوروبا، واشتمل عليه كتابه «تخليص الإبريز» لم يوجهه إليه محمد على، بل أشار عليه بذلك- كما يقرر الطهطاوى نفسه- الشيخ حسن العطار، شيخ الجامع الأزهر فى ذلك الوقت. الوالى كان يريد واعظًا ليس أكثر، ويشير عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «عصر محمد على» إلى أن الوالى طلب من الشيخ حسن العطار أن ينتخب من بين علماء الأزهر إمامًا للبعثة الأولى يرى فيه الأهلية واللباقة، فاختار الشيخ رفاعة لهذه الوظيفة، وبالتالى لم يكن الرجل مرسلًا بصفته طالبًا، بل كإمام للبعثة، ولم يكن مطلوبًا من إمام البعثة أن يتعلم من «علوم الفرنسيس» وأنظمتهم بل يكفيه أن يؤدى وظيفة الإمامة لأفراد البعثة، وما إليها من الوعظ والإرشاد.

تطور «الدور الوعظى» الذى اختاره الوالى لرفاعة الطهطاوى بعد عودته من البعثة فعُيّن واعظًا وإمامًا فى أحد آلايات الجيش المصرى النظامى الذى أسسه محمد على، فانتظم فى آلاى حسن بك المانسترلى، ثم انتقل إلى آلاى أحمد بك المنكلى، وقد تمكن «الطهطاوى» من تطوير نفسه عند الانتقال إلى بيئة عمل جديدة، تختلف عن بيئة العمل فى الأزهر، فبدأ يوجه مواعظه إلى «الدفاع عن الذّمار والكفاح فى سبيل الوطن»، وأيضًا إلى تمجيد الوالى محمد على الذى يصف عصره قائلًا: «عصر المدة المحمدية العلوية، السامى على كل الأعصار»، ووصف الوالى فى موضع آخر بأنه: «صاحب الهمة وصاحب السعادة محب العلوم والفنون حتى تعد دولته من الأزمنة التى تؤرخ بها العلوم والمعارف المتجددة فى مصر مثل تجددها فى زمن خلفاء بغداد». قد يكون من المهم التنبيه إلى أننا نتحدث هنا عن الطهطاوى فى إطار الوظيفة التى ارتضاها له الوالى «وظيفة الواعظ»، دون تقليل بالطبع من الدور التنويرى الخطير الذى قام به والجهود التى بذلها فى هذا السياق. 

المفارقة أن الوالى نفسه بدأ يعانى من تركيزه على استدعاء الوجه الوعظى للدين، ويحصد آثار تمكن الطبيعة الشكلانية والمظهرية من نمط التدين الذى أشاعه، وضعف تأثيره على سلوك من تلقى إليهم المواعظ. يشهد على ذلك نص الكلمة التى وجهها الوالى إلى أفراد البعثة بعد عودتهم من الخارج، وبدء رحلة قيامهم بالمهام المطلوبة منهم فى إدارة دولاب الدولة. يحكى «شفيق غربال» فى كتابه «محمد على الكبير» أن الباشا توجه بكلام حاسم إلى نخبة المبتعثين العائدين من الخارج، قال لهم فيه: «ولْتعلموا أنكم إذا لم تحوّلوا من خصالكم القديمة من الآن فصاعدًا، ولم ترجعوا من طرق المداراة والمماشاة، ولم تقولوا الحق فى كل شىء، ولم تجتهدوا فى طريق الاستواء، ولم تسلكوا سبيل الصواب لصيانة ذات المصلحة؛ فلا بد لى من أن أغتاظ منكم جميعًا. وإذا كنت موقنًا من تقدم هذا الوطن العزيز على أى صورة كانت وملتزمًا فريضته علىّ صرت مجبورًا على قهر كل من لم يسلك هذا الطريق المستقيم اضطرارًا مع حرقة كبدى وسيل الدموع من عينى، فالذى أرجوه من الخالق— سبحانه وتعالى— أن يجعل نصيحتى هذه مؤثرة فى قلوبكم؛ حتى أشاهد منكم حسن الحركة، وأعاين ما تستحقونه من الخير، وتقر عيناى بامتياز كل منكم حسب أقصى أملى».

تحمل هذه الكلمة إشارة إلى معاناة الوالى من سلوكيات العنصر المصرى الذى بدأ يعتمد عليه، وأكثر ما كان يعانى منه هو الألاعيب المصرية الشهيرة فى مهاودة الكبير وإسماعه ما يريد سماعه «المماشاة» وعدم كشف الحقائق له وإخفاء ما يمكن أن يؤدى إلى غضبه «المداراة». كان الوالى يوجه التوبيخ إلى النخبة التى ما فتئت تسمع مواعظ «الطهطاوى» وغيره من المشايخ، ولم يؤثر محتواها فى سلوكهم، فبقوا على ما هم عليه، وكأنهم كانوا يمررون ما يسمعون بأذنهم اليمنى إلى أذنهم اليسرى لتلقى به خارج عقولهم، وتلك نتيجة طبيعية ورد فعل متوقع لبشر يفهمون أن الحاكم يوظف الدين لتحقيق مصالح معينة يرتجيها، فيلعبوا معه اللعبة نفسها، فيقابلونه بمظاهرات التدين المظهرى الذى يبرز له مدى تأثرهم بما يقول وعاظه، ويؤدون فى الواقع بما تعودوا عليه من أخلاقيات تعكس ثقافتهم المتجذرة القائمة على نفاق الكبير والتستر على الأخطاء وترك الملك للمالك.