رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الوثائقية» وتحولات الإعلام المصرى

مساء اليوم الأحد تنطلق قناة «الوثائقية» آخر عنقود الإعلام المصرى.. وآخر ثمرة لجهد طويل بدأ منذ تأسيس «المتحدة للخدمات الإعلامية» والإرهاصات التى سبقت ذلك.. ما يهمنى فى إصدار هذه القناة الهامة هو رصد دلالات ذلك وأثره على الإعلام المصرى وهو أثر أحسبه إيجابيًا بكل تأكيد.. فإطلاق «الوثائقية» يكشف عن توجه للاستثمار فى الصناعات الإعلامية الثقيلة التى تحفر فى جذور الوعى وتنافس الروايات المزيفة للتاريخ.. بعد فترة من التخبط أظنها بدأت منذ عام ٢٠٠٠ تقريبًا رأى فيها الإعلام أن منافسة القنوات المعادية تكون بالمزايدة عليها فى العداء لمصر! لا بالرد على ما تقول!.. كان ذلك مواكبًا لإطلاق القنوات الخاصة التى يديرها ويملكها رجال أعمال ومستثمرون.. رأوا ومعهم غيرهم أن الرد على بعض القنوات المعادية لمصر يكون بالمزايدة عليها فى نفس اتجاهها وتبنى نفس توجهاتها تقريبًا والانخراط فى الشعبوية الرخيصة التى تلعب على مشاعر الجماهير وإحساسها الدائم بالغضب والظلم والتقصير والفشل التاريخى للحكومات.. فتناسخت القنوات خلال وقت قصير مجموعة من برامج «التوك شو» المتشابهة فى الأسلوب والرسالة.. والتى ينظر بعضها نحو البحر الأحمر.. وينظر بعضها نحو البحر المتوسط وينظر بعضها نحو المحيط الأطلنطى نفسه.. ثم أن كان أن ظهرت فكرة أكثر فشلًا تقول إن التليفزيون المصرى نفسه عليه أن يزايد على هذه القنوات الخاصة.. التى ظنت هى نفسها أنها تزايد على القنوات المعادية.. فلجأ التليفزيون إلى تقليد القنوات الخاصة.. واستعان ببعض أكثر الإعلاميين شعبوية ونفاقًا للجماهير ولعبًا على عواطفها.. وانطلق الجميع يزايدون على بعضهم البعض.. وعلى المسئولين عاثرى الحظ الذين يسوقهم القدر للوقوع بين أيديهم.. وكانت النتيجة أن ساد مناخ من السوداوية.. والعدمية.. وعدم الارتياح.. تزامن مع شيخوخة السلطة.. فخرج الناس يهدمون ما هو موجود طمعًا فيما هو أحسن.. ويريقون نصف الكوب الملآن بدلًا من إكمال النصف الفارغ.. وكان ما نعرفه جميعًا ولعب الإعلام فيه دورًا رئيسيًا.. بحسن نية أحيانًا وبسوء نية فى أحيان أخرى.. ولعل هذه الخلفية التاريخية مهمة جدًا لفهم التحول التاريخى والجذرى الذى أسست له الشركة المتحدة وغرست ثماره منذ تأسيسها وفق رؤية عميقة.. أحد مقومات هذه الرؤية عدم الانجرار لتقليد الأعداء والمزايدة عليهم بتشويه الواقع بحجة أن هذا يمنح إعلامنا مصداقية ويجعل المشاهد يشاهده.. لأن هذه المزايدة فى جوهرها هى صناعة لنوع ردىء من الإعلام يسمى «الإعلام الأصفر» يدعى فيه الإعلامى أنه معارض بدرجة ما.. فى حين أنه لا يخدم سوى مصالحه ومصالح من يدفع له.. وما زالت لهذا النوع الردىء ذيول فى بعض القنوات الخاصة.. وبعض برامج الإنترنت.. يقدمها بعض من كانوا نجومًا لهذا «الإعلام الأصفر» من الموجودين فى كل العهود، وفى خدمة كل المصالح، وكل التيارات.. رفضت «المتحدة» الانجرار للعبة المزايدة.. وأظنها انشغلت بتقديم نوع من الصناعة الإعلامية الثقيلة.. سواء عبر برامج إعلام التنمية.. مثل اكتشاف المواهب، أو البرامج التاريخية، أو الثقافية، أو برامج إلقاء الضوء على الصناعة المصرية، أو مسابقات ريادة الإعلام، ثم أكملت رسالتها بتأسيس قطاع مصرى للأخبار يقدم أخبار العالم والإقليم وأيضًا أخبار مصر بوجهة نظر مصرية.. ثم كان إطلاق القناة الوثائقية لملء فراغ طال فى الإعلام المصرى.. وسبقه لجوء عدد من القنوات العربية لإنتاج العديد من الوثائقيات عن الشأن المصرى من وجهة نظر غير مصرية وكان ذلك فى السياسة والدين أكثر من أى شىء آخر.. حيث تروى الحقيقة بعيون الدول المعادية والجماعات الإرهابية معًا.. فالداعية الإخوانى الذى أهال التراب على رموز مصر وفنانيها يصبح فى رواية إحدى القنوات «فارس المنابر».. والرؤساء المصريون الذى اجتهدوا فأصابوا وأخطأوا يصبحون فى رواية قناة أخرى «فراعنة مصر الحديثة» بكل ما للكلمة من دلالة سلبية عند العوام المستهدفين بمثل هذه الأفلام.. وما دام الإعلام المصرى فى استراتيجيته الجديدة يستهدف علاج الجذور وإعادة تشكيل الوعى وإزالة التشوهات التى لحقت بصورة مصر عن ذاتها عبر عقود متتالية بفعل فاعل.. فلا بد إذن من إطلاق قناة وثائقية تعيد رواية التاريخ، وتحتفى برموز مصر التى أراد الإرهابيون تشويهها والإقلال من شأنها عبر حملات متتالية منذ السبعينيات حتى ثورة الثلاثين من يونيو تقريبًا، وبذلك يتحقق جزء آخر من رؤية الإعلام المصرى الجديد، الذى توقف مع المتحدة عن مجاراة الأعداء فى مزايدتهم على مصر، وأخذ بيد الناس ليريهم مصر الحقيقية برموزها، وثقافتها، وحضارتها، وإذا كان لى أن أجتهد فى النصيحة فإننى أقترح على «المتحدة» أن تفسح مجالًا على القناة الجديدة لروائع الأفلام القصيرة والتسجيلية التى قدمتها أجيال مختلفة من مخرجينا المصريين كمشاريع تخرج فى معهد السينما المصرى منذ تأسيسه فى الستينيات، وكذلك المركز القومى للسينما.. إذ يملك كلاهما مئات الأفلام القصيرة التى صنعها مخرجون مثل عاطف الطيب وخيرى بشارة وداود عبدالسيد وكاملة أبوذكرى ومحمد ياسين وعشرات غيرهم من مبدعى السينما المصرية ممن كانت أفلامهم القصيرة لا تجد منفذًا تليفزيونيًا تعرض من خلاله.. ولعل «الوثائقية» تكون منفذًا مناسبًا لإظهار بعض جوانب التميز المصرى فى الأفلام القصيرة إلى جوار دورها الرئيسى فى تقديم التاريخ بوجهة نظر مصرية تدحض الروايات المعادية وتشارك فى صناعة الوجدان المصرى الذى بدا أن هناك خطة لمحوه وتشويهه وجدت من يتصدى لها ويفشلها فى الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية.. والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل.