رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«تمشية قصيرة مع لولو» سيرة حياة بعيون الطفولة

تمشية قصيرة مع لولو»
تمشية قصيرة مع لولو» لمحمد خير

الطفولة هى عالم التشكيل، وأساس رؤيتنا لتفاصيل العالم، فيه تتكون السيرة الذاتية للإنسان ويتضح موقفنا من كل شىء بالمستقبل، من موت وحياة، وتقديرنا لذاتنا والآخر.

فى «تمشية قصيرة مع لولو» لمحمد خير، الصادرة عن «كتب خان»، يأخذنا الكاتب فى تمشية قصيرة فى جنبات الحياة، برؤية ومشاعر طفل صغير، ربما لأن الطفل هو الأكثر حساسية تجاه كل ما يدور فى فلك هذا العالم، فيستثار عاطفيًا حتى أمام حفيف الأشجار.

فنجد الكاتب يصور لنا عالمًا بمعالم شديدة الدقة، لا ينتبه لها إلا الطفل. 

‏يبدأ الكاتب مجموعته القصصية بقصة «مفقود» من خلالها تمرد على الشكل السردى المتعارف عليه، باستخدام تقنيات وبنية لغوية لا تخضع للشكل التقليدى للقصة، وهو الإفراط فى استخدام حرف الواو، بشكل أثار غيظى فى البداية، متسائلة كيف لقاص كهذا يقع فى هذا الفخ اللعين؟! 

‏ثم انتبهت بأن الكاتب يستخدم هنا تقنيات توحى بشىء من خصائص الطفولة، لغة مختلفة، تجسد رؤية خاصة للعالم، فيشعر المتلقى بأن هناك حركة لا متناهية لطفل يلهث ويود أن يحكى كل ما يدور فى عقله، وما يثيره فى عالمه الصغير.

‏فبرع محمد خير فى وصف مظاهر سلوكية، ورؤية نفسية هامة، فى عالم يجسد مشروعًا إنسانيًا، نموه بشكل مثالى هو نمو لمجتمع كامل، وإدراك الكاتب لذات وكينونة هذا العالم- عالم الطفولة- يبزر مدى حساسيته تجاه الواقع والآخر وذاته.

‏- شخصية فردية رمز لما يجب أن يكون عليه الإنسان

‏رسم محمد خير إحدى شخصياته رمزًا لما يجب أن يكون عليه جوهر الإنسان، فنجد فى قصة «متبرعة» فتاة تناجى واقعًا مأزومًا، لا يعرف قيمة جسده، وما يمكن أن يقدمه للإنسانية من خلال هذا الجسد، الذى قد يظنه الفرد دون قيمة، وبشكل فلسفى رمزى يعالج قضية وجود الإنسان فى العالم، وأهمية أن يساعد كل شخص حتى الرمق الأخير من حياته، حتى لو سيتخلى عن أهم شىء «جسده».

‏فى المقابل نجد الطالب الذى جسد تصورات البشر تجاه قيمة جسدهم، فتى قروى ساذج لا يفهم كيف يتصرف حيال كل شىء حوله، حتى أكل المربى، فهو بمثابة الجاهل الذى لا يعرف ما يمكن أن يقدمه للعالم من مساعدة، ثم بالصدفة يقابل تلك الفتاة، التى حاول جذب انتباهها من خلال التبرع هو الآخر بدمه لإحدى الحالات، ثم يذهبان لأحد المستشفيات ليكتشفان بعد التبرع أنه لسيدة ستلد طفلًا، فكان الطفل رمزًا لحياة جديدة، وإبراز لمدى أهمية جسد الإنسان للآخر. 

‏خلال السرد يكتشف الفتى الساذج هوس تلك الفتاة بالتبرع، وكيف تهتم بصحتها من أجل الآخرين، وليس من أجل ذاتها، فى نهاية القصة نجد الفتى يهرب من الفتاة، توهمًا منه أنها مجنونة، فهرب خوفًا على حياته وجسده، فى آخر مشهد يقدم لنا الكاتب بشكل مكثف أنه لا فائدة ولن يفهم الإنسان أبدًا.

‏فالفتى لخص كل هذه التجربة المثيرة التى خاضها لأول مرة فى حياته بأن أخبر أصدقاءه: لقد كنت فى مستشفى ولادة، ليقابلوا حديثه بسخرية. وكأنه لم ينتبه فى كل تلك الأحداث أن بفضله ستعيش أم تربى طفلًا كان بمثابة حياة جديدة.

- محمد خير بين أحلام اليقظة ورهبة الموت ومحاولة إصلاح الواقع

‏يصف فرويد الإبداع بأنه حلم يقظة يعبر عما داخل صاحبه، والعمل الأدبى ما هو إلا حلم يحاول المبدع تهذيبه وجعله مقبولًا لدى الآخرين، فبالرغم من أن العمل يجب أن يكون أصيلًا ويعبر عن جوهر المبدع، لكنه يتم تطويعه لظروف الواقع الاجتماعى، وفى بعض الأحيان يشعر المتلقى بأن المبدع وصل لمرحلة من التوحد مع أبطاله، يخوض معاركهم ومحنهم من موت وخصام وحرب مع ذاتهم والآخرين، ومن خلال الحكى نجد محمد خير يجسد هذا المبدع بجدارة، ففى قصة «إصلاح الماضى» يصف مدى الواقع المأزوم الذى يعيشه بعض أفراد المجتمع، فتحاول الشخصيات وبفلسفة خاصة غير منطقية، الهروب من واقعهم، بخلق واقع جديد أو السفر عبر الزمن بشكل خيالى، فيصنعون ذكريات كاذبة لكنها أكثر شاعرية واتساقًا مع أحلامهم المثالية، وربطها بحاضر حائر، أحداثه مضطربة، والجدير بالذكر أن هذه القصة تبرز مدى عدم سواء المجتمع، الذى يقود بالضرورة لعدم سواء أفراده نفسيًا، فنجد معالم صراع نفسى حاد لذكر وأنثى يجسدان مجتمعًا بشكل أفراده، وهذان الفردان يسعيان للتمرد والتغيير حتى لو بشكل خيالى.

‏ثم لو تدبرنا رؤية الكاتب للموت فى قصة «بقعة عمياء» و«رحلة أخيرة» و«طواف» سنجده يعتبره الوجه الآخر للحياة الذى جسده عالم الطفولة، سواء داخل المجموعة القصصية أو فى عتبة النص «تمشية قصيرة مع لولو». 

وهذه الثنائية بين القصص التى شكلت الحياة والموت تمنح المتلقى إحساس القيمة بكل شىء، فيطرح لنا محمد خير أبعادًا عديدة لفلسفة الموت، اجتماعية ونفسية وميتافيزيقية سيريالية، فيصوغ عديدًا من الأفكار المتعلقة بالموت والفقد بواقعية سحرية، فيشعر المتلقى بوحشية الموت، وماهية الروح وعالم ما بعد الموت.

فى «تمشية قصيرة مع لولو» ستخوض رحلة قصيرة فى جنبات الحياة، بعين كاتب يرى التفاصيل الدقيقة بالعالم، بشكل طفولى أحيانًا وأحايين أخرى عميق إنسانى شديد الرومانسية والشعرية.