رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الصنادقية».. الحارة كرمز للوطن.. والنكسة كبداية للانهيار

الصنادقية
الصنادقية

الكاتب يحاول تعرية حقيقة ومعاناة مجتمع من خلال سيرة اجتماعية وتاريخية للحارة الشهيرة

للوهلة الأولى يبدو عنوان الرواية غريبًا، فـ«الصنادقية» حارة مصرية جدًا، من حوارى حى الجمالية، أحد الأحياء العتيقة التى تحمل فى شوارعها خدوشًا بفعل ماضٍ سحيق. ويحمل أهلها ثقل العالم وجروحه داخل نفوسهم مثل باقى الشعب.

وباكتمال حكايات الشخصيات داخل الرواية تجد معنى المكان الحقيقى الذى لن تجده فى كتب التاريخ، خيوط متفرقة تبدأ رحلتها من حادثة اختفاء، وتعبر عن صورة تكتمل فى نهاية الحدث، فتعطى عمقًا للمكان ومعنى للزمان الذى تدور فيه.

فى روايته الأولى «الصنادقية»، الصادرة حديثًا عن دار «العين» للنشر، يبدأ الكاتب يوسف الشريف روايته بحدث مفصلى فى تاريخ الرواية، وهو اختفاء «الشيخ مالك»، وهذا الحدث بُنى عليه خط الزمن داخل الرواية، وهى مقسمة إلى ٦ فصول، فصول يتم فيها حكى أحوال الحارة قبل اختفاء الشيخ، وفصول أخرى يتم فيها حكى أحوال الحارة بعد اختفاء الشيخ.

يستغل الكاتب هذا الاختفاء وطبيعة الإنسان المصرى وسكان هذه المناطق الشعبية فى الحكى والكلام الكثير بسرد أحوال هذه الحارة، وقصص لأناس عاشوا فى الأسر طوال حياتهم، أسر من أهاليهم ودينهم وعادات وتقاليد مجتمعاتهم، وأفكار مجتمع عانى من تغيرات بدأت من نكسة ١٩٦٧م.

ومن خلال هذا الأسر، استغل الكاتب هذه القضايا لطرح الأسئلة المهمة حول الوعى والوجود. فالبحث عن المعنى والحقيقة من أهم أهداف هذه الرواية، حيث يحاول الكاتب تعرية حقيقة مجتمع ومعاناته من خلال سرد سيرة اجتماعية وتاريخية للصنادقية.

حتى تبدو «الصنادقية» فى حقيقة الأمر، هنا صورة لوطن كامل يصرخ بأعلى صوته لكن لا فائدة من الصراخ ما دامت الصرخة لا تخرج من زنزانة الفم ويعانى منذ نكسة ١٩٦٧م الانكسار والهزيمة والضعف والجمود والتخلف وكل ما له علاقة باللا إنسانية. فتشاهد الجهل والأكاذيب والخداع على ألسنة الشخصيات داخل الرواية.

يستخدم الكاتب فى السرد لغة فصحى شديدة العذوبة وفى الحوار تختلط العامية بالفصحى بطريقة مدروسة لتشعر بطبيعة المكان وعمق شخصياته بل الفراغ الذى يملؤهم. ويتدخل الكاتب فى السرد بطرح أسئلة وتساؤلات حول هؤلاء الأشخاص وحول عالمهم، فيشارك الحوار مع الشخصيات ويقوم بدور الضمير أو العقل الذى يؤنبهم ويحثهم على التفكير، على التمرد والخروج من زنزانة الجمود والتخلف. 

لكن لا فائدة من ذلك فالحقيقة صعبة والجهل مستبد فى العقول وكل يوم هناك ضحايا بفعل اللا إنسانية.

فى هذه الرواية يتمرد يوسف الشريف على الشكل والمكان والسلطة الأبوية والرمز والأفكار والعادات والتقاليد. ويظهر التمرد على الشكل فى شخصية الشيخ مالك، فهو شيخ بقميص وبنطلون، حليق الذقن، خطبته قصيرة لكنها معبرة ومكتملة فى جوهرها ومعناها. 

وجاءت شخصية الشيخ مالك مخالفة للشكل السائد والمعتاد فى عقول الناس عن الشيوخ ولذلك لم يتقبلها أغلب من فى الحارة. وبعدها يظهر التمرد على المكان فى تعرية المكان من عظمته وإظهار مدى الجهل والتخلف والجمود الذى حل بساكنيه منذ الأزل، فنرى على مدار الرواية حوادث عديدة منها: إشهار إفلاس، حادث انتحار، قصص فساد، ممارسات جنسية غريبة وأب يقتل ابنته. كل هذه الحوادث تختلف فى طريقة ارتكابها وغايتها لكنها تتفق فى فكرتها ودوافعها التى تنم عن جهل وتخلف. 

وفى التمرد على السلطة الأبوية نرى الشيخ فرج أبوسيف وهو يبيع بناته ويزوجهن صغارًا دون رغبتهن ويقتل ابنته الصغرى بسبب خروجها إلى الشارع دون إذنه فيطرح يوسف الشريف هنا أسئلة عديدة فى التمرد والغاية من الخلفة ومعنى الأبوة وتأثير الفقر والبخل والجهل على المجتمعات. كذلك يطرح سؤال التمرد على الرمز، يقوم الكاتب بالتمرد على الشيخ والفكرة نفسها. فالشيخ ليس بالضرورة أن يكون كلامه صحيحًا فكلامه ليس مقدسًا كما يعتقد البعض. وهنا يستشهد الكاتب بفتاوى لشيوخ اشتركوا فى حكاية هذه الرواية ليظهر مدى جهلهم، فتاوى منها عدم معالجة المرض استجابة لرغبة الله فى موتك وغيرها من الأفكار والآراء. وفى النهاية يظهر بوضوح التمرد على العادات والتقاليد السائدة فى مجتمعاتنا كالزواج المبكر والختان وغيرهما.

من خلال سرد حكاية كل شخص عن الحارة وما يعرفه عنها وعن أهلها تكتمل حقيقة المكان وحقيقة شخوصه، ومن خلال هذا السرد نرجع بالزمن إلى النكسة أو ما قبل النكسة بقليل لسرد الحكاية كاملة وكيف وصلت الصنادقية إلى تلك الحال، ويظهر بوضوح أن نكسة ١٩٦٧م وبعدها موت الرئيس جمال عبدالناصر قد لعبا دورًا حاسمًا فى تغير مسار فكر الشعب المصرى وبالتالى تغيير مصيره، فقد دخل المجتمع بعد النكسة فى تيه عميق وشعور بالانكسار واستُغل هذا التيه فى تسهيل أسلمة فكر المجتمع وانتشار أفكار تتصف بالجمود والجهل والتخلف حتى وقتنا هذا.

فى وسط الشخصيات تظهر شخصية عم عادل بائع الكتب الحاضر الغائب، حيث يتم حكى قصته على لسان شخصية من شخصيات الرواية، وتمثل هذه الشخصية شعاع الضوء الذى يخترق ظلام العالم بل ظلام العقل. الرواية تحتوى على تساؤلات عديدة بداخلها لا تنتهى لا تكف فى البحث عن المعنى والإنسانية. فالإنسانية هى الدين الحق. الصنادقية هى حدوتة مصرية بداخلها تفاصيل بحجم وطن بل بحجم عالم كامل. حدوتة مكتملة فى شخصياتها، متعددة الأفكار والجوانب تتلاءم من أجل الوصول لحقيقة ومعنى لواقع نعيشه كل يوم.