رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عن الكبسة والطعمية والشاعر السعودى محمد عابس

وكأنها ماكينة جهنمية تلك التى قدمت بعض الأصوات الشاذة من الجانبين المصرى والسعودى عندما بدأوا فى التلاسن وإثارة النعرات الجهوية وإطلاق الرسائل فى غير موضعها، وكأن أزمات الدنيا قد انتهت حتى يطلع علينا نفر من الناس لصناعة أزمة وهمية وبطولات خاسرة ينعكس أثرها سلبًا على أجواء العلاقة بين البلدين، فيصطاد من بقلبه مرض فى الماء العكر.

لا يمكن لعاقل أن تسرق ماكينة السوشيال ميديا عقله ويتخيل حقائق وهمية حول عناوين لم تعد صالحة للاستهلاك فى زمن متسارع ومصالح متشابكة وجذور مترابطة، وفتح الكلام عن وهم الزعامة الذى حاول البعض ترويجه من الجانبين. إن مثل ذلك السلوك لا ينظر إلى المستقبل أبدًا ولكنه يلوى الرقاب إلى الخلف ليتكلم عن الماضى، وهنا يكمن الفخ الذى يبتلع أى منطق ويهدم اللحظة الراهنة لنحصد التخلف والخسارة.

الصورة النمطية التى يحاول البعض إغراقنا فيها عن صراع الكبسة والطعمية هى صورة نقبلها من باب الكوميديا وخفة الدم لا أكثر ولا أقل.

فى بداية التسعينيات عشت أحد عشر شهرًا فى الرياض كمحرر صحفى فى دار الأرض للنشر والخدمات الإعلامية بحى العليا، أسابيع معدودة بعد الوصول وانكسرت قيود الغربة، لم يكن ذلك الكسر سهلًا ولكن عندما جاء أول أيام عيد الأضحى، جاء إلى بيتى الشاعر الشاب فى حينها محمد عابس، أنا المصرى المغترب القادم من القاهرة وهو السعودى المغترب القادم من بلد بعيدة عن الرياض، نقضى أول أيام العيد بعيدًا عن عائلاتنا، وتصبح الصورة شجنًا واحدًا وأرواحًا هائمة.

وقتها كان عابس قد أصدر ديوانه الأول «الجمر ومفارش الروح» وكان ديوانى الأول «عصافير فى الفراغ» مخطوطًا، وبالشعر تنكسر الحدود وتموت الغربة. ثلاثون عامًا مضت راح كل واحد منا فى طريق حتى جاء معرض القاهرة الدولى للكتاب الذى انقضى منذ أيام وها هو صديقى القديم على منصة الشعر ضيفًا كريمًا، فى هذا التوقيت المصادفة والذى أراه غريبًا ومدهشًا كان التلاسن بالتغريدات والتراشق بالفيديوهات على أشدهما من الجانبين، ألمحت للشاعر محمد عابس من بعيد عن محبتنا له وجاء رده شلالًا من الود العميق.

إذن الوعى هو الذى يحدد الصورة العامة لعلاقات الشعوب والفن هو الذى يحدد اتجاه أرواحهم، القادم من الأيام لا بد أن يكون مختلفًا، كبيرًا بحجم المسئولية وعميقًا بحجم المصائر المشتركة وثابتًا بحكم التاريخ والجغرافيا.

التمترس خلف الشعار يحجب الرؤية والأحكام المطلقة مفسدة مطلقة، عندما سألوا الفيلسوف الهولندى التنويرى المتمرد باروخ سبينوزا عن متى يخون المثقف فكرته؟ أجاب بوضوح: يخون المثقف فكرته عندما يقدسها. أسوق هذه المقولة إذا اعتبرت رماة السهام من الجانبين فى خندق المثقفين، وظنى أنهم ليسوا كذلك.

الذين أثاروا الغبار فى الأجواء يتجاهلون دائمًا أنهم بمثل تلك التصرفات يزيدون الحمل على عاتق مؤسسات الدبلوماسية الرسمية وهى مثقلة بالأحمال ولا تنتظر المزيد، لذلك يصبح من الواجب، بل من المهام الوطنية، إحياء ما يسميه البعض «الدبلوماسية الشعبية»، وها هو الشاعر محمد عابس من هناك يهدينا قصائده فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، وها نحن نرد له التحية والاعتذار عما فعله السفهاء منا.

هى صفحة تقبل الطى السريع وهو مستقبل يحتاج البناء والتواصل والفعل التراكمى.. يحتاج أن تمتد يد مسئول كبير إلى الأدراج ويخرج إلى الشعبين المصرى والسعودى معلنًا عن البدأ فى تنفيذ الجسر البرى المعلق بين البلدين لنختصر الكلام والمسافات، وقتها قد نرى ابتكارًا جديدًا يمزج الكبسة بالطعمية وننتهى من ذلك التلاسن الكوميدى.