رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أكل عيش

فيه حوار شهير لعمر الشريف، بيقول ما معناه إنه الفن مش رسالة ولا حاجة، وإنه وسيلة لـ"أكل العيش".
كل شوية ناس تعلق على الموضوع دا، ويعترضوا، وإزاي يعني؟ الفن طبعًا رسالة، وكلام عمر الشريف لا يعول عليه.
طاه، سيبك من عمر الشريف، وخليني أفكر معاك في الموضوع، وقبل كل شيء أحب أوضح لـ حضرتك حاجة مهمة بـ النسبة لي، وهي إنه النظر إلى نشاط ما بـ اعتباره "أكل عيش"، يخليه أسمى وأرقى وأفضل وأوضح من النظر إليه بـ اعتباره "رسالة" (إن كان ثمة ضرورة لـ المفاضلة يعني) أصلك أكل العيش كما أفهمه، يعني أن شخصًا ما يؤدي دورًا/ وظيفة/ مهمة، يتيحها لمن يريدها من المواطنين، ومقابلها يحصل على "عيشه"، العيش = الحياة ذاتها، شأنه في ذلك شأن الحلاق والبقال والمحاسب، والسباك والطبيب والسائق، ومدير إدارة العلاقات العامة بـ شركة الهواء الناطق.
كون المنتج/ الخدمة اللي بـ يقدمها الفنان ذهنية أو نفسية، ما يخليهاش مميزة ولا مفارقة، هي فقط طبيعة أداءها مختلفة، وفيه وظايف كتير كدًا، من الصعب الإحاطة التامة بـ طبيعتها على نحو فيزيقي، لكنها في النهاية نفس الحاجة: "خدمة مقابل أكل العيش".
إنما النظر لـ نشاط ما بـ اعتباره رسالة، ضمنيًا يعني إنه الفنان دا رسول/ وسيط بين طرفين، فـ فيه هنا سؤال مهم، إذا كانت الرسالة/ الوساطة موجهة لـ طرف هو الجمهور، فـ فين الطرف المرسِل؟
هل مثلًا بـ ييجي لك جبريل بـ الليل، يلقي إليك الوحي؟ولا عندك مفاهيم ورؤى لدنية، جي تنقلها لـ الناس؟ دا طبعًا غير افتراض إنه منفصل عن الجمهور المفترض، سواء بـ إنه أعلى منهم، بـ اعتباره الرسالة جاية من فوق، أو من مسافة إذا كانت جاية من حتة أنا مش فاهمها.
الفن في النهاية يعني امتلاك مهارة ما، لـ تؤدي وظيفة لـ الجمهور، سواء فقط تسليتهم (وهي مهمة عظيمة) أو مساعدتهم على تداول أفكارهم/ مشاعرهم، مفيش فن بـ يجيب حاجة من بره، يبلغها لـ الناس في "رسالة".
طاه، إذا كان ذلك كـ ذلك، ليه عادة الناس بـ تنزعج لما حد يقول إنه الفن مهنة مش رسالة؟
تقديري الشخصي إنه دا راجع لـ خلل في مفهوم "أكل العيش" بـ شكل عام، لـ إنه عبر الزمن اكتسب عندنا شحنة دلالية تقضي بـ إنه يعني السعي نحو اكتساب المال، أو أكبر قدر منه على نحو فيزيائي مباشر، دون النظر لـ أي اعتبارات أخرى.
اللي هو البقال مثلًا دا راجل كل اللي يهمه: اشترى باكو الشاي بـ كام وباعه بـ كام، إنما ما يفرقش معاه أي حاجة تخص "الدور المجتمعي" اللي بـ يؤديه، ودا مشكلة كبيرة مش بس تخص الفن، إنما هي عامة على كافة الأنشطة.
لو حضرتك مثلًا طبيب، وكل ما تفكر فيه هو زيادة دخلك، حتى إنك ممكن تجري علمية جراحية أو تصف دواء، أو أي شيء لا يحتاجه المريض، لكنه يزيد حصيلتك المالية، إنت كدا مش بـ تاكل عيش، إنت كدا مجرم، وقيس دا على أي مهنة.
أي مهنة لها مقتضيات، علشان تكون مضيفًا شيئًا ما، ومحققًا قيمة ما وأنت تمارسها، الإخلال بـ المقتضيات دي تحت لافتة "أكل العيش"هو في تقديري خطر، في الفن أو في غير الفن.
لكن دا لا يعني بـ الضرورة أن يتحول الناس أجمعين لـ مفكرين وفلاسفة، واعين تمامًا بـ أهمية دورهم ويمارسوه بـ شيء من التقديس، لا، عادي يعني، ممكن جدًا تمارس عملك، وتراعي المقتضيات، وتحقق القيمة، من غير ما تطرح على نفسك السؤال، أو حتى حد يطرحه عليك، إنت فقط "بـ تاكل عيش".
الفكرة هنا ماذا إذا انطرح السؤال؟ يجوز هـ يكون عندك إجابة مرتبة، ودا عند قليل من الناس، ويجوز ما عندكش، ساعتها الأليق هو ما قاله عمر الشريف، أو زي ما عمل، ما تدعيش حاجة إنت مش حاسس بيها، أنا بـ أشتغل لـ أكل العيش، اللي هو زي ما إحنا عارفين، مُر.