رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صناعة الكتاب مصدر للعملة الصعبة وعلى الحكومة دعمها

هل تعرف أن الكتاب المصرى مصدر للعملة الصعبة؟.. هل تعرف أن صناعة «الطباعة والتغليف والنشر» تحتل أحيانًا المركز الأول فى قائمة الصادرات المصرية؟ على الأقل هذا ما يقوله التقرير ربع السنوى عن صادرات مصر وتستطيع أن ترجع له بمنتهى البساطة.. أحيانًا يمر ربع عام أو ثلاثة أشهر فنجد أن أكثر صادراتنا جذبًا للعملة الصعبة هو الكتاب المصرى.. هكذا وببساطة ووضوح.. أما إذا راجعت تقارير صادرات مصر خلال الأعوام العشرة السابقة مثلًا فستجد أن الكتاب يتربع فى المراتب الخمس الأولى فى قوائم ما تصدره مصر للعالم. 

ما معنى هذا؟.. معناه أن النشر صناعة.. بل صناعة مهمة جدًا.. وأن الدولة إذا ساعدت الناشرين الجادين فإنها تساعد صناعة مصرية مهمة يمكن أن تدر علينا عملة صعبة.. أنا من مدرسة تتبنى الواقعية السياسية والاقتصادية لذلك أنا أتحدث عن فائدة مباشرة للاقتصاد من صناعة النشر.. واحد زائد واحد يساوى اثنين.. دولار زائد دولار يساوى اثنين، ونحن نحتاج لكل قرش ولكل دولار ولكل يورو يمكن إضافته للناتج القومى المصرى.. أنا لن أتحدث عن البيوت المفتوحة من صناعة النشر فى مصر من عمال طباعة وتجار ورق ومصححين ومؤلفين ومصممى أغلفة ومسئولى توزيع وعاملين فى المكتبات وعاملين فى دور النشر.. إلخ.. لن أتحدث أيضًا عن «القوة الناعمة المصرية» التى يمثلها الكتاب المصرى فى المنطقة.. لأن الموضوع ببساطة لا يحتاج إلى حديث.. كل كتاب يحمل صورة نجيب محفوظ وطه حسين والعقاد وفلان وفلان وفلان.. إلخ، هو إعلان عن ريادة مصر فى البلد الذى يباع فيه الكتاب.. وهو فوق ذلك كله مصدر للعملة الصعبة التى نحتاجها ويحتاجها أى بلد بشدة فى هذه الظروف التى يمر بها العالم.. وحتى أكون صريحًا فإن مئات الآلاف من النسخ التى تصدرها مصر للعالم العربى ليست كلها من مؤلفات محفوظ والحكيم وهيكل.. هناك طلب كبير جدًا على الكتب التراثية والكتب القديمة والكتب الدينية عمومًا.. وهناك طلب على الكتابات التجارية وروايات الرعب والتشويق والروايات العاطفية.. إلخ إلخ.. ولكن فى النهاية هذه الكتب تباع بالعملة الصعبة وتدر دخلًا على مصر.. فأهلًا وسهلًا بها لأننا نتحدث عن صناعة.. هذه الصناعة التى يجب أن تدعمها الدولة كما تدعم صناعات كثيرة تمر الآن بمأزق مزدوج.. فالورق الذى تطبع عليه الكتب يتم استيراده من الخارج.. وهو مثل أى سلعة مستوردة تضاعف سعره عدة مرات وسيتضاعف أكثر وهذا ينعكس بالطبع على سعر الكتاب.. ما الذى يمكن أن تقدمه الدولة هنا؟.. الدولة يمكن أن تساعد فى تحسين صناعة الورق المصرى.. لدينا صناعة ورق بالفعل لكنها تنتج ورقًا دون المستوى.. لأن المادة الخام التى يصنع منها ليست من لب خشب الغابات مثل ورق الخارج ولكن من لباب قصب السكر.. المفاجأة السعيدة أنه فى عصر العلم فإن كل شىء ممكن إذا أردنا.. وبالتالى مطلوب من اتحاد الصناعات ووزارة الصناعة مثلًا تقديم دراسة عاجلة حول إمكانية تطوير صناعة الورق المصرية.. لماذا؟ لأن الورق المصرى هذا.. عندما نطبع عليه إبداع الكتاب المصريين يباع فى الخارج بالعملة الصعبة ويربح الجميع.. مصنع الورق والمطبعة والناشر والمؤلف والموزع وشركة الشحن.. إلخ إلخ. 

يمكن للدولة أيضًا أن تعفى الورق الذى تطبع عليه الكتب من الجمارك لمدة عام واحد فقط وتسترد قيمة الجمارك بالعملة الصعبة، الفكرة أن الناشر يشترى الورق ليطبع عليه كتبًا يبيعها طوال العام فى معارض الكتب العربية والدولية بالعملة الصعبة وهذا حقه طبعًا.. أنا أريد من الدولة ممثلة فى وزارة التموين أو الصناعة أو أى كيان أن تعقد اتفاق شراكة مع دور النشر التى تشارك فى المعارض الدولية.. أعطيك عشرة أطنان ورق معفاة من جمارك مئة ألف جنيه مثلًا.. فى شهر يناير ٢٠٢٣.. مقابل أن تدفع لى قيمة الجمارك بعد عام كامل بالعملة الصعبة التى بعت بها كتبك خلال هذا العام.. هنا تكون الدولة قد سهلت للناشر عملية الإنتاج وفى نفس الوقت لم تتخل عن حقها فى الجمارك.. ولكن قدمت تسهيلات لدعم المصدرين.. الذين هم فى هذه الحالة ناشرو الكتب. 

السبب الثانى فى ارتفاع سعر الكتاب داخل مصر هو ارتفاع كلفة التوزيع.. فبعد أن يطبع الناشر كتابه على ورق مستورد عالى السعر.. يجد أن المكتبة التى تعرض كتابه تطالبه بنصف ثمن الكتاب تقريبًا مقابل توزيعه أو عرضه فى المكتبة.. صاحب المكتبة معذور نوعًا ما.. فهو يستأجر مكانًا فسيحًا فى حى راقٍ غالبًا ويدفع كهرباء وأجور بائعين وإيجارًا شهريًا وهو أيضًا يريد أن يربح.. ما الذى تستطيع الدولة فعله فى هذا الموضوع إذن؟.. تستطيع الكثير.. وأول ما تستطيعه إتاحة نقاط لتوزيع الكتاب بنسبة توزيع أقل.. عشرة فى المئة مثلًا أو عشرين.. يمكن تأسيس شركة لتوزيع الكتب مثلًا، يمكن التعاون مع الشركات التى تدير محطات البنزين.. يمكن التعاون مع المواقع الثقافية المختلفة التى يزورها الجمهور.. لا مانع أن يكون لدينا مكتبات تبيع الكتاب الخاص والعام فى المتاحف مثلًا والسينمات والمسارح والمكتبات العامة التى تحتل قصورًا جميلة ومبانى فسيحة.. لا مانع أن تدخل قصور الثقافة وهيئة الكتاب فى هذا التعاون.. من الوارد جدًا أن تكون لدينا مكتبات لتوزيع الكتاب فى المدارس الخاصة والدولية التى تهتم الأسر فيها بشراء الكتب لأبنائها وتسمح ظروفها المادية بهذا.. وهكذا.. بدلًا من أن تكون لدينا فى القاهرة عدة مكتبات خاصة ناجحة «تؤدى دورًا عظيمًا نشكرها عليه».. يكون لدينا مئات المكتبات التى تعمل بنفس العقلية المبدعة ويديرها شباب مثقفون لا موظفون على طريقة «مدام عفاف التى فى الرابع».. إن الدولة عندما تؤسس هذا الكيان ستكسب بشكل مباشر «دون أى تدخل فى مضمون الكتب ما دامت مرت بالمراحل الطبيعية لإنتاجها» وستدعم صناعة يعمل بها عشرات الآلاف وستدر عملة صعبة على مصر فى وقت نحتاج فيه للعملة الصعبة وستساهم فى نجاح شركات تدفع ضرائب على أرباحها.. وستدعم ريادة مصر فى المنطقة.. وستساهم فى زيادة الطلب على الثقافة فى دول الخليج العربى التى باتت تهتم بالثقافة والإبداع لأنها تريد أن يكون لديها قوة ناعمة مثل مصر.. لنقل إنها تعتبر مصر قدوتها فى هذا المجال.. لذلك بدأت دولة الإمارات الشقيقة فى تقديم تسهيلات كبيرة للغاية لدور النشر التى تعمل هناك.. إعفاءات ضريبية ومعونات مالية وشراء مسبق للإنتاج.. وعلى عهدة الناشر زياد إبراهيم فإن هناك ما يزيد على مئة ناشر مصرى افتتحوا دورًا للنشر فى الإمارات الشقيقة.. والأصح أنهم نقلوا نشاطهم لدبى.. وأن الكتب التى سيطبعونها فى دبى هى لمؤلفين مصريين وسيصمم أغلفتها وينفذها مبدعون مصريون.. لكنها ستطبع فى دبى وتصدر للعالم العربى من دبى ويعود ثمن بيعها لحسابات الناشرين فى بنوك دبى!! رغم أن صناعها مصريون!! وكتابها مصريون! وجزءًا كبيرًا من قرائها مصريون!!

ما المطلوب إذن؟ مطلوب التعامل مع النشر كصناعة جادة وواعدة تحمل آفاقًا كبيرة فى المستقبل وتواجه أخطارًا حقيقية.. ومساعدة الدولة لها فرض عين تمليه مصلحة مصر على المستوى المادى أولًا وعلى المستوى المعنوى ثانيًا وعلى المستوى السياسى ثالثًا.. ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد.