رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«ما بعد الحقيقة».. كتاب يناقش دور وسائل التواصل الاجتماعي في التضليل

الفيلسوف لي ماكنتاير
الفيلسوف لي ماكنتاير

يرصد الفيلسوف الأمريكي لي ماكنتاير، في كتابه "ما بعد الحقيقة"، الصادر حديثًا عن "دار معنى للنشر والتوزيع" بترجمة حجاج أبو جبر، أسباب شيوع مصطلح "ما بعد الحقيقة"، والأحداث التي دفعت نحو تبلوره باعتباره إشكالية باتت مُلحة في الآونة الأخيرة.

ما بعد الحقيقة

رغم ذيوع مصطلح "ما بعد الحقيقة" في الفترة الأخيرة، وتحديدًا منذ العام 2016 نتيجة تأييد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخابات الرئاسة الأمريكية لكن المؤلف يرى أن التعمية على الحقائق لا تخص عصرنا الراهن فحسب بل تعود إلى آلاف السنين؛ فتاريخ العالم لم يغب عنه نزعات اللا عقلانية والنقاشات حول امتناع الحقيقة الموضوعية والهجوم على سُلطة العلم.

ومع ذلك، فإن قاموس أوكسفورد لم يقدم تعريفًا للمصطلح سوى في السنوات الأخيرة، ليشير إلى أنها تعني الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرا في تشكيل الرأي العام، وأن الحقيقة تصير بلا أهمية مع اعتماد الرأي العام على الاعتقاد الخاص والمشاعر.

تعبر ما بعد الحقيقة عن القلق لدى المهتمين بمفهوم الحقيقة، لا سيما مع صعوبة القبض على الحقائق الموضوعية التي تبيت أقرب إلى الاستحالة يومًا بعد الآخر في ظل بزوغ وسائل التواصل الاجتماعي وانحسار الإعلام التقليدي وشيوع الأفكار ما بعد الحداثية حول التحيزات المعرفية وإنكار وجود حقائق كلية، فضلًا عن التحيزات المعرفية لدى كل فرد والتي تلعب دورًا في تضليله.

الحقيقة في عالم ما بعد الحداثة

يشير المؤلف إلى أن ما بعد الحداثة أثارت إشكاليات معرفية حول فكرة الحقيقة والموضوعية، لتصل إلى استحالة تحقيقهما، وهو ما يستهجنه بقوله: "يمكن إثارة أسئلة مشروعة عن مفاهيم الحقيقة والموضوعية، بل إن تاريخ الفلسفة يدور إلى حد كبير حول هذه النقاشات، لكن ينطوي الرفض والاحتقار التامان للحقيقة والموضوعية على غلو شديد، ولو أن ما بعد الحداثيين قنعوا بالاقتصار على تفسير النصوص الأدبية أو حتى الرموز التي وراء سلوكنا الثقافي لكان الأمر على ما يرام لكنهم لم يقنعوا بذلك وطاردوا العلم الطبيعي".

ولم يقتصر الأمر على ذلك بل طال التشكيك في فكرة وجود الواقع نفسه؛ يوضح المؤلف "إن ما يبدو جديدا في عصر ما بعد الحقيقة هو التشكيك ليس فقط في فكرة معرفة الواقع بل في وجود الواقع نفسه، فعندما يكون الشخص مضللًا أو مخطئًا، فمن المحتمل أن يدفع الثمن، لكن عندما ينكر قادتنا أو أغلبية مجتمعنا الحقائق الأساسية، فإن العواقب يمكن أن تكون كارثية وتدميرية للعالم".

إنكار العلم

واحد من الاتجاهات التي قادت نحو ترسيخ عالم "ما بعد الحقيقة" ذلك التوجه نحو إنكار العلم ومشروعيته، إذ بدأت إرهاصات ما بعد الحقيقة فيما حدث للعلم على مدار العقود الأخيرة.

كان العلم يحظى في الماضي بالاحترام نظرا لسلطة منهجه، أما الآن فنتائجه العلمية تتعرض للتشكيك الصريح والزعم بأن العلماء متحيزون أو أنهم لا يلتزمون بالمعايير العلمية الجيدة.

ويضرب المؤلف مثالًا حول التعامل مع قضية تغير المناخ، فرغم عدم وجود خلاف علمي حول ارتفاع درجات الحرارة ومسئولية البشر عن ذلك، تم إيهام الجماهير بوجود خلاف علمي حول القضية، وشهد العقدان الماضيان إنكارا للعلم في مسائل تغير المناخ واللقاحات والتطور، وتبدى في تكتيكات استخدمت لصالح ما بعد الحقيقة.

وسائل التواصل وميول التحيز

يلفت المؤلف إلى أن صعود وسائل التواصل الاجتماعي قاد إلى تغذية ميولنا المتأصلة إلى تأكيد التحيز وخصوصا بعد انحسار الإعلام التقليدي، وما يواجهه أصحاب القيم الصحافية التقليدية من تضاؤل لمكانتهم أمام الشعبية المتزايدة لمحتوى الرأي غير المحقق أحيانا.

أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي معلومات مجانية للجميع، وأدى عرض الحقيقة والرأي جنبًا إلى جنب إلى التشوش فيما ينبغي تصديقه. وفي غياب عمليات الفحص والتدقيق تعرّض القراء والمشاهدون بسهولة إلى تدفق مطرد من التحيز.

يرجع المؤلف انحسار الإعلام التقليدي في جانب كبير منه إلى ظهور الإنترنت في تسعينيات القرن الماضي، والذي بدأت معه الأمور تتدهور، وعندما وقعت الأزمة المالية في عام 2008 بدأت صحف كثيرة دورة من الاحتراق الذاتي فشهدت هبوطا في الإيرادات وتقليصًا للعمالة وانكماشا في الإنتاج. 

يقول الكاتب: "مع انتشار فيسبوك اكتسب قوة بوصفه مجمع أخبار ليس فقط بفضل مشاركة الناس قصصهم الإخبارية على صفحاتهم، ولكن بفضل عمود القصص الأكثر شعبية الناتجة عن الإعجابات، والذي استهدف عرض قصص إخبارية من المحتمل أن نرغب في رؤيتها". 

قاد الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها مصدرًا للأخبار إلى تشوش الحدود الفاصلة بين الأخبار والآراء، لأن الناس أصبحت تشارك قصصًا من مدونات ومواقع إخبارية بديلة ومصادر مجهولة، ما دفع نحو مزيد من الاستقطاب والتشظي في المحتوى الإعلامي.

تحقق هذا الاستقطاب عبر التحيز لدى كل فرد، والذي وجد تحققه بتجاهل المصادر التي لا تعجبنا، واعتماد موثوقية الأخبار أو انفصالها عن الحقائق على اختيارات الأصدقاء والخوارزميات التي يستخدمها فيسبوك في تحديد الأخبار التي نبدي إعجابنا بها أكثر من غيرها.

التصدي لظاهرة ما بعد الحقيقة

يرى المؤلف أن الخطوة الأولى في التصدي لظاهرة ما بعد الحقيقة هي فهم تكوينها وأسبابها ثم محاولة تعلم التفكير الناقد بما يتضمنه من المنطق والاستدلال، والتحقق من مصادر متعددة، وتحديد مدى مصداقية المصدر، وكذلك تحديد مدى خبرة المؤلف وإلمامه بالموضوع، والتفكير في مدى واقعية الموضوع.  

وشدد ماكنتاير على ضرورة مقاومة الأكاذيب وألا نفترض أن الادعاءات غير المعقولة لا يصدقها أحد، قائلًا: "في عصر يسوده الاستغلال المتحزب وتشظي مصادر المعلومات المضبوطة على العزف على تفكيرنا المدفوع بالرغبة والعاطفة، لم نعد نتمتع برفاهية ذلك الافتراض".

الجانب الآخر الذي يمكن من خلاله مقاومة التضليل هو معرفة الطريقة التي يتجاوب بها البشر مع الواقع، والوعي بالتحيزات المعرفية للتغلب عليها بصورة أفضل، وهو ما يوضحه المؤلف بقوله: "إننا نملك القرار بشأن الطريقة التي نتجاوب بها مع العالم الذي يحاول فيه شخص ما خداعنا لتحقيق فائدة أو مصلحة، وما زالت الحقيقة مهمة مثلما كانت دوما".