رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

علم فلسطين

«علم».. هو عنوان الفيلم الفلسطينى الذى حصد جائزة الهرم الذهبي، وهى جائزة مهرجان القاهرة السينمائى الدولى الكبرى، إلى جانب عدة جوائز أخرى مثل «جائزة الجمهور» وجائزة «أحسن ممثل»، وشارك الفيلم من قبل فى مهرجانى «تورونتو وروما» وبعد مشاركته فى المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائى الدولى شارك الفيلم فى مهرجان البحر الأحمر فى جدة وأسهمت عدة دول فى إنتاجه، فالفيلم من إنتاج فلسطين وقطر وفرنسا وتونس والسعودية ومصر، وحصل الفيلم على منح من مهرجانات وصناديق لدعم الأفلام مثل صندوق «أبو ظبى والدوحة وأيام القاهرة السينمائية» ومهرجان «كان وفينيسيا ومراكش».
ومن مصر ساهمت منتجة مصرية - اشتهر اسمها مؤخرًا فى إنتاج أفلام مستقلة بميزانيات محدودة - فى إنتاج فيلم «علم» وأثارت تلك الأفلام الجدل بسبب طرحها ومضامينها وحصولها على جوائز يعتقد البعض أنها مسيسة، ودومًا ما كان اسم المنتج محمد حفظي، يتردد ويلتصق بهذه الأفلام الجدلية، بل وشارك من قبل فى إنتاج وتوزيع الفيلم الفلسطينى «صالون هدى» للمخرج هانى أبو أسعد.
وقد كتبت عن هذا الفيلم ورسالته القبيحة مقالًا نقديًا، ففيلم «صالون هدى» يحمل اسم فلسطين لكنه وبكل تأكيد يعادى الفلسطينيين وينتصر لعدوهم وأعداء الإنسانية بانتصاره للكيان الصهيونى بشكل واضح وفج يثير الغثيان، أما فيلم «علم» فطرحه لا يتسق فى اعتقادى مع قناعات السيناريست والمنتج ورجل الأعمال محمد حفظي، إلا فى تفصيلة واحدة أود أن أكون مخطئة فى فهمها أو تأويلها.
ففى فيلم المخرج الإسرائيلى آموس جيتاي، «قطار للقدس» والذى عرض عام ٢٠١٨ فى فعاليات مهرجان فينسيا السينمائى الدولي، يختتم الفيلم بأغنية من أغانى الراب لشاب فلسطينى يقول مقطع فيها «فلسطين مش الأرض فلسطين هى الروح» وهى التفافة لن تنطلى على أحد تود إسقاط أحقية الفلسطينيين فى أرضهم تحت دعاوى ماكرة طنانة تقول بأن فلسطين «روح لا أرض» فكتبت مقالًا عن فيلم الإسرائيلى «جيتاي» كان عنوانه «فلسطين هى الأرض والروح معًا»، وفى فيلم «علم» لم يتم رفع العلم الفلسطينى على سطح المدرسة كما دبر مجموعة من طلابها، والسبب أن الشاب الثائر صاحب فكرة رفع العلم الفلسطينى وتنكيس أو إزاحة العلم الإسرائيلى كانت لديه فوبيا الأماكن المرتفعة! كما رفض كذلك أصدقاؤه رفع العلم لأن المصاب بالفوبيا كان هو صاحب الفكرة، وبالتالى قدم الفيلم طرحًا يقول بأن العلم ليس مهمًا فهو مجرد قطعة قماش ملونة، أما فلسطين وتاريخها الذى يزوره الصهاينة المحتلون للأرض هو الأجدر والأهم.
وهو طرح يحترم ولن نفترض فيه سوء النية أو نضع صناع العمل فى موضع الاتهام أو التفتيش فى النوايا، فأنا أرفض تمامًا فكرة «محاكم التفتيش» والتى هى سوط مسلط على رقاب أى باحث أو مبدع له مطلق الحرية فيما يؤمن به أو يقوله أو يفعله، وأتمنى أن يكون الإيمان بفكرة الوطن وتاريخه يسمو ويعلو على فكرة العلم ويتجاوزها حقيقةً، ولم يُقدم هذا الطرح لتحقيق مآرب أخرى، فأعلام الدول رمز لها شاء من شاء وأبى من أبى، لذلك لم تتخلّ إسرائيل عن علمها «قطعة القماش الملونة» شأنها شأن جميع الدول التى ترفرف دومًا أعلامها على أسطح مبانيها  وترفع كل دول العالم أعلامها على سفاراتها فى الخارج، فبالعلم وبقطعة القماش الملونة تلك تُعرف الدول ويقف الجميع إجلالًا وتقديرًا لتحية العلم وبالتالى لا أتفق كثيرًا مع طرح الفيلم الذى يقلل من قيمة العلم فى المطلق لكن وفى نفس الوقت لا أخون الفكرة ولا أشكك - كما سبق وأوضحت - فى نوايا صناع العمل وأبطاله من الفلسطينيين الذين رأيناهم بأعيننا وعلى الشاشات وهم يحرقون العلم الإسرائيلى.
ورغم ذلك ما زالت إسرائيل جاثمة - بعلمها وباعتداءاتها المتكررة - على صدور الفلسطينيين وما زال علمها مرفوعًا وما زالت توجه رصاصاتها القاتلة لصدور الأبرياء العزل وهذا ما رأيناه عند استشهاد الشاب الثائر المتحمس فى الفيلم والذى قدم ما يشبه الخطبة الحماسية وكان فيها  طليقا فصيحًا تلقائيًا - دون أى افتعال -  مدافعًا عن تاريخ فلسطين الذى يزوره الصهاينة بفجاجة يحسدون عليها ويتمادون فى ذلك وبمنتهى الأريحية حتى صدقوا أكاذيبهم.
ففى فيلم «علم» نشاهد قصة ٣ شباب وفتاة من فلسطين يعيشون تحت حكم دولة الاحتلال ويعرفون بعرب إسرائيل أو بعبارة أدق «عرب ٤٨» والذين تحملوا طوال ٧٠ عامًا وما يزيد كل ما قيل فى حقهم من تخوين مجحف، تخوين نابع من جهل بيّن بتاريخ الصراع الصهيونى الفلسطينى والذى هو وللأسف غير مستوعب بدقة ولا يتفهم أنصار التخوين الوضعية الخاصة والظرف التاريخى الاستثنائى الذى وضع فيه عرب ٤٨ وأجبروا عليه فبات من الظلم وعدم الإنصاف تخوينهم والتشكيك فى فلسطينيتهم، وجاء الفيلم لينصف هؤلاء ويزيل الغبن المتراكم عليهم منذ سنين والذى صار أشبه «بالاستريوتايب» أو «التابو» الذى يردده البعض بدون علم أو دراية.
فأظهر الفيلم مفاهيم ورؤى وحيوات ٤ من شباب عرب ٤٨ ومحاولة تسييسهم وتغييبهم عن قضيتهم وهويتهم بالنسيان القصرى للتاريخ ورغم ذلك كان لديهم الحس الوطنى والوازع الحقيقى رغم كل المتناقضات التى يعيشونها لمحاربة محاولات التغييب والتسييس وتزوير التاريخ لطمس هويتهم وراح أحدهم «الثائر المتحمس» برصاص الصهاينة غدرًا ليقدم «عرب ٤٨» شهداء لفلسطين شأنهم شأن أبناء الداخل الفلسطينى ونوه الفيلم أيضًا وأشار إلى الفتاة الفلسطينية بطلة العمل «ميساء»، وهى قريبة لأحد شهداء القضية الفلسطينية وبالتالى فعرب ٤٨ شأنهم شأن كل الفلسطينيين لديهم شهداء وقدموا شهداء وتضحيات ومكوثهم القصرى فى أراضى المحتل ليست خيانة ولا تعنى إنتهاء علاقتهم بوطنهم وفى هذا الطرح إنصاف طال انتظاره لأهل فلسطين من عرب ٤٨.
وليس هذا فقط فمخرج الفيلم المخرج الفلسطينى فراس خوري، وهو فلسطينى من حيفا قد حرص وقصد وتعمد وهو يقدم عمله الطويل الأول أن يظهر وبشكل صريح وجلى للمتلقى أن المقاومة الفلسطينية بدأت على يد الشيوعيين والمسيحيين فى فلسطين.
فأسلمة القضية الفلسطينية - وهى قضية إنسانية فى المقام الأول - قد أضر بها ضررًا بالغًا كما فعل بها أيضًا تعريبها، فالمقاومة والجبهة الشعبية التى تأسست لتحرير فلسطين مع بدايات سنوات المقاومة نشأت على يد الفلسطينى المسيحى، جورج حبش، ورفاقه من الفلسطينيين مثل «أبو على مصطفى» وغيرهم.
وكانوا جميعًا ينتمون للتيار اليسارى والشيوعى الاشتراكى ولم تكن لهم أية علاقة من قريب أو بعيد بتيار الإسلام السياسى والذى لم يكن له وجود آنذاك فى المقاومة، بل سطا عليها فيما بعد وأطلق شعاراته الطنانة التى لا تقتل ذبابة! مما أضر بقضية فلسطين الإنسانية العادلة ليعيد لها مخرج العمل ما سلب منها ومنح لأصحاب المقاومة الحقيقيين حقهم الذى أيضًا سلب منهم ونسيه كثيرون،  أو رغبوا فى تناسيه عمدًا ربما ليظل اللاعب الأوحد على أرض فلسطين والذى يحتكر المقاومة لصالحه ويؤسلمها هم تيارات الإسلام السياسى المسلحة والتى عقدت القضية ولم يسفر أو يتمخض ما قامت به عن أى شىء «وفى رأيى أنها لم تقم من الأساس بأى شىء تجاه فلسطين وقضيتها» فقط تاجرت بالأقصى لتثبيت أقدام الإسلام السياسى ليس فقط فى أرض فلسطين بل فى المنطقة بأسرها..  فقضية فلسطين بالنسبة لتلك التيارات كانت طوق النجاة وكانت الذريعة التى ضمنت لهم البقاء وما زالت وللأسف.
لذلك شدد المخرج على إظهار أنماط مختلفة من المقاومة فى فلسطين لا علاقة لها بالتيار المتأسلم وفى أكثر من مشهد وبشكل عمدى ومتكرر وفى أكثر من سياق ظهرت الشعارات الاشتراكية وشارات الشيوعية «كالمطرقة والمعول» والبيان الشيوعى وصورة من «المدمرة بوتيمكين» وهو ذاته اسم الفيلم الذى قدمه المخرج الروسى «سيرجى ايزنشتين» ومجد فيه الثورة العمالية التى اندلعت فى روسيا عام ١٩٠٥ ضد النظام الاقطاعى والتى قادت يدورها للثورة البلشفية فى عام ١٩١٧ كذلك النشيد الأممى الذى ردده ودندن به كاملا الشاب المتحمس فى الفيلم ليلة استشهاده ليدلل على عمق إيمان المقاوم الشيوعى بما كان يؤمن به وأظهر دور «عرب ٤٨» فى المقاومة ضد المحتل حتى صار كفاح الشباب والجيل الجديد من أبناء عرب ٤٨ كفاح تحت عباءة النسيان القصرى للتاريخ! ولكنهم قاوموا وتصدوا لكل محاولات التزوير والتشويه وطمس الهوية والسطو على التراث الفلسطينى فمزج المخرج فى فيلمه وضفره بأغانٍ فلسطينية غنت احداها «ميساء» الشابة الفلسطينية بعذوبة منقطعة النظير وفى مشهد مر فى الفيلم كالطيف الناعم تاركًا رائحة ذكية وأثرًا فى الروح كأثر الفراشة.
وفى ذكرى النكبة والتهجير التى تتزامن مع عيد الاستقلال الذى اخترعته إسرائيل كما اخترعت لنفسها كيانا واسما وحدودا وعلما يرفرف فوق سطح مدرسة هؤلاء الشباب ويشاهدونه يوميًا ويشعرون تجاهه بالغضب الشديد، لذلك جعل المخرج ذلك العلم يختفى مرات ومرات، ليظل سطح المدرسة خاليًا من أي أعلام، وتلك رمزية أرى أن المخرج ساقها ليقول لنا إن رفض الطلاب والجيل الجديد من الشباب لوجود علم إسرائيل فوق سطح مدرستهم جعلهم لا يرونه واختفى تمامًا من أمام أعينهم - وتلك حيلة دفاعية نفسية - تسمى فى علم النفس «بالعمى الانتقائى» فأنت لا ترى ما ترفضه نفسك ولا ترى الشىء الذى لا تريد أن تراه وهذا يعنى أن كل ما نرفضه يختفى من أمام أعيننا ويصير غير موجود، فما لا نريده ننهيه من داخلنا فينتهى وعندما خرج الشباب ليحيوا ذكرى نكبتهم لا استقلال عدوهم الكاذب فتح الصهاينة النار على المتظاهرين الفلسطينيين العزل من أبناء ٤٨، فاستشهد واحد منهم برصاصهم ولم يستطيعوا إكمال ما خططوا له وأسموه بعملية العلم، والتى كانت تهدف لإزاحة علم الصهاينة ليحل محله علم فلسطين.
فالأرض أرضهم التى استولى عليها العدو وغيّر اسمها وغير علمها وزوّر تاريخها وسطا على تراثها، لكنه لم يستطع محو ذلك التاريخ وانتماء أصحاب الأرض لبلادهم ورفضهم للاحتلال وتمسكهم بأرضهم، حتى وإن استشهدوا فى سبيل ذلك بمنتهى الأريحية وباختيارهم وعن طيب خاطر شأنهم شأن أى فلسطينى، وبلا تصنيف بين أبناء الداخل وأبناء عرب 48.