رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

النجاة من بين مطرقة الكفاءة وسندان الوصم

قضت النساء مسيرة طويلة، ورحلة كبيرة في محاولة لإثبات وجودهن وقدراتهن وكفاءتهن في كافة المجالات، وعاشت فترات قاسية في مسار رحلتهن المقدسة ما بين تجاهل لمطالبهن، ووصم لقدراتهن، وصولا للتعنيف المعنوي والجسدي، وحتى تحويل مطالبهن لحرب فئوية لا أعلم من ابتدعها وما الفائدة من كل هذه العراقيل مقابل طلبات منطقية حول المساواة كونهن شريك الرجل في الجنس البشري، وكونهن تملكن القدرات لإنجاز نفس الأعمال التي يقوم بها الرجال في المهن المختلفة حتى التي أدعو بفرض الأفكار والتوابيت المجتمعية أنها تحتاج لقدرات جسدية وعقلية يصعب على النساء تحملها.

وقد يرى البعض أن بفضل تلك الرحلة، وجهود المجتمع المدني المناصر، ودعم القيادة السياسية في الكثير من الملفات قد نالت المرأة المساواة ولم يعد هناك داع للخوض في تلك المصطلحات أو الدعوات، بل ومن هزل وكوميديا الموقف قد يذهبون بالحديث حد المبالغة وأنها قد فاقت الحد في المساواة وأصبح الرجال هم من يحتاجون للدعم، ولا نعلم عن أي مجتمع يعاصرون، فلا مساواة حقة إلا أن تكون عن قبول وإيمان وشراكة من نسيج الأرض دون فرض أو توجيه، دون الحاجة لمجابهة أفكار ابتلينا بها على مدار عقود، ولكن هذا ليس ما يعنينا الحديث عنه الآن.

دعونا نطرق بدايات العام بالحوار عن نوع من العنف الذهني نتباهى كنساء في بعض الأحيان ونتغاضى عن التصريح به، يهلكنا بدنياً ونفسياً، ويخل بالتوازن الإنساني، دون أن يسمح لنا أن نتفوه باستياء، أو امتعاض، وإلا أشاروا بسخرية لقدرات وكفاءة النساء.

تعايش النساء في هذا العصر مع هذا العنف الذي توغل فينا، وصوب نحوهن كلما طالبن بالمساواة وتحقيق الذات، هذا العنف بمثابة مزيج بين العنف الأسري، والمجتمعي، والجنداري، وعنف بيئة العمل، في وعاء واحد يصب به على النساء لتمزق بين كل شيء من أجل أن تثبت الجدارة برغبتها وأحيانا تُدفع له.

فإن قررت المرأة الخروج من المنزل وتحقيق الذات فيما تملك من قدرات، طالبها المجتمع بأن تنفذ كل ما ادعى أنها من واجباتها في البداية ثم بعد ذلك فلتنظر ماذا ترى، فيجب أن تكون ربة المنزل الشاملة المعنية بالتنظيف والكي والطهي، وأن تكون زوجة مثالية يراها زوجها وكأنها قادمة من الليالي الباريسية، ومهما تغير الوضع الاقتصادي تدبر دوماً وتصنع أجود الأشياء بأرخص الموارد في المنزل دون تسهيل عليها، وتتغاضى عن أى شىء يغضبها من عائلة زوجها، مهما كان.
وبالطبع تكون أُمًا مثالية من وجهة نظر المجتمع بأن صغارها دومًا تترك أي شيء لأجلهم، ترفض أوقات العمل لتحضر لهم الطعام، وتدرس لهم وتشاركهم أنشطتهم، وتعد الأمتعة اليومية وغير ذلك من الأمور، فهي دوما مسئوليتها بشكل منفرد.

ومن ثم فهي سيدة في عملها، لا تمل ولا تكل، ولا ترفض أي عمل إضافي، غير مخطط له، محرم عليها الحديث عن التعب، أو المجهود الذي استنزفه العمل، وإلا هوجمت ووصمت بعدم الكفاءة وعدم صلاحيتها للعمل بل وتكون النساء في أماكن كثيرة عرضة للتسريح من العمل دون علم أو أخبار، وفي بيئات أخرى قد ترى أن وجودهن في حد ذاته عبئا بأمومتها وحملها وغيرها، فتأبى النساء بالتبعية الحديث عن أسرهن وأبنائهن وأهميتهم في حياتهن، وتغشين أن تطلبن إِذْنًا أو إجازة من أجلهم حتى لا تتهم بالتقصير أو عدم الكفاءة بين الحين والآخر.

وبجانب ذلك يطلب منها أن تهتم بمظرهها وجسدها، وشكلها وتعطي لذلك الوقت والجهد، وتضغط بعض المفاهيم المعاصرة أكثر عليها فتشعرها أنها مازالت ينقصها الكثير فيجب أن تجد الوقت لنفسها، وتمارس الرياضة، وتتسوق، وتسافر، وترى الأصدقاء، وتتثقف، وتذهب لحفلات التوقيع وصالونات الحوار، وتزيد من مهارتها، وتحسن من مستواها العلمي، وتكون عضوا عاملا بالمجتمع.. إلخ إلخ.
وفوق كل ما سبق تجد المرأة في كثير من الأحيان نفسها في منتصف الطريق دون شريك، وونيس، ظنت ذات يوم أنهما سيتقاسمان الدنيا سوياً حتى الممات، وحدها تتحمل المسئولية كاملة، بعقل لا ينام فكراً، تعمل بالداخل والخارج، وتحمل عبء الجميع وحدها هي وأطفالها وزوج ينصب نفسه طفلاً من أطفالها ويلقي كل الأدوار عليها دون خجل، أو استحياء أو تقدير لكم الأعباء ولدوره كشريك في حياتها بدافع أنها امرأة قوية.

ولو حاولت النساء تخفيف هذا المجهود المميت من المهام اليومية، والتي لا يستطيع أي فرد تحملها بمفرده مهما كانت طاقته ووقته وصحته النفسية والبدنية ستجد سيلا من التوبيخ والاستهزاء، والتقليل والوصم لا ينتهي لها ولمعشر جنسها أجمعين، فتارة مدعين أن النساء لا يقدرن علي بذل جهد، أو أنهن غير كفء أو أنهن أمهات غير صالحات، وزوجات مقصرات، أو أنهن يميلن للوحدة والكآبة وطلباتهن لا تنتهي وشكاواهن لا تجدب، ومتطلبات، ومبذرات، وأجسامهن لا تقوى على مشقة العمل أو أنها فشلت في التنسيق بين هذا وذاك.

وينسون أو يتناسون غَالِبا أنهم ما زالوا قابعين في الماضي وفقا لتقسيم المهام القديم الذي اختل توازنه منذ سنوات، وولي عصره حين أصبحت المرأة تمارس نفس الأعمال بنفس المشقة وباستخدام نفس الطرق، ومع ذلك لا زالت يفرض عليها أن تجمع بين كافة المهام القديمة والحديثة ثم فلتمنح دقائق من الراحة والثناء في مقابل أن الرجال لا زالت تنفرد بنفس المهام وترى أنها تستحق عليها وتسمع من الوقت ترتاح فيه دون مشاركة أو اعتراض ومقابل خدمة دائمة وقت راحته غير مدفوعة الثمن المادي والمعنوي أيضا للمرأة.


أرى أن النساء يتحملن الكثير مقابل نيل استحقاقاتهن الحالية، ويبذلن الكثير حتى يحمين حقوقهن، ويصون كفاءتهن ورغبتهن في النجاح تارة ،أو الاستقلالية المالية والأمان المستدام تارة أخري، والحفاظ على جدارتهن في أعمالهن، في مقابل مسئوليات لا تحصي ولا تعد، وصحة تفنى هباء، وليالي يقضيهن وحيدات، وتفكير لا يجدب ولا ينقطع، وصمت تارة، وغضب تارة أخرى قابعات بين آلام لا تنتهي ما بين الروح والجسد قد يعوضها نجاحات واستحقاقات في بعض الأحيان، وقد يذهب حتى الشعور بمرارتها وحلاوتها والشغف بها أحيانا أخرى، وأجد أن أفضل ما تقدمه النساء لنفسها هذا العام أن ينفسن عن هذا النوع من العنف الذي يمارس عليهن بلا مقابل سوي نفس انطفأت بها الروح، أن يرفضن مزيداً من الأعباء الزهيدة الثمن، وينفضنها عنهن حتى يتحررن من بين المطرقة والسندان.

أجزم أيها النسوة أننا لم نعد في حاجة لإثبات شيء، سوى لأنفسنا أننا نستحق الأفضل لنا، وأننا نملك الكفاءة الكافية لفعل ما نرغب في الوقت الذي نريد، ولكننا لن نهدر العمر ليرانا المجتمع كاملات مثاليات نستحق التقدير والاحترام والتمكين في أعينهم وعقولهم وسلوكهم.

نحن النسوة يكفينا ما أهدر من العمر دفاعاً مطالبات بأبسط حقوقنا، ويكفينا ما نعانيه يومياً لنثبت بديهيات برهنها الكثير من الدلائل، ويكفينا تحملنا لأعباء كثيرة وحدنا دون أدنى مقابل حتى المعنوي منها، فلم يعد هناك متسع للمزيد من الضغوط، فلنفعل ما يرضينا دون تأنيب، أو ندم، أو شعور بذنب زرعته فينا ثقافة زائفة، ولا نسمح لأحدهم أن يدفعنا أن نزرع بأيدينا العنف الذي نبغضه.