رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرجل الذى ربح نفسه

تفتحت عينا صهيب بن سنان على الدنيا فوجد نفسه أسيرًا لدى الروم، بيع فى مكة وأصبح مولى لبنى تيم، وشأنه شأن كل المستضعفين الذين تحلقوا حول النبى صلى الله عليه وسلم واجه صنوفًا شتى من التعذيب، ولم يهتز إيمانه، وظل مستمسكًا بما هو عليه من الحق. لحظة أن قرر الهجرة مع النبى إلى المدينة اعترضه أهل مكة، كان قد تاجر واغتنى، وقالوا له جئتنا طريدًا شريدًا فتاجرت واغتنيت ثم نكصت عن دين آبائنا وأجدادنا، والآن تريد الهجرة وراء محمد، ضحك المستضعف فى وجوههم، وعلم أنهم يريدون ماله، فتنازل عنه جميعه وتركه لهم، ولحق بالنبى. فالمال لا يزن شيئًا أمام القناعة الإيمانية. كان النبى صلى الله عليه وسلم يلقبه بـ«أبويحيى»، وعندما علم حكايته وتنازله عن ماله من أجل إيمانه، قال له: «ربح البيع أبا يحيى.. ربح البيع».

ظل «صهيب» مناضلًا ومدافعًا عن إيمانه برسالة محمد حتى صعدت روحه الطاهرة صلى الله عليه وسلم إلى ربه، فعاش مخلصًا لأبى بكر وعمر. وتمتع خلال عصريهما بمكانة أدبية خاصة بين المؤمنين، يشهد على ذلك ما قرره عمر بن الخطاب بعد أن طعنه أبولؤلؤة المجوسى، حين أسند إليه إمامة المسلمين فى الصلاة، فقام بالمهمة طيلة الفترة التى كان «أصحاب الشورى» الستة يجتمعون ويتفاوضون فيها على من يتولى أمر المسلمين بعد عمر. لم يقتصر الأمر على إمامة الصلاة، بل تجاوزها إلى مهمة أخطر عهد بها الخليفة المحتضر إلى «صهيب»، تجد تفاصيلها عند «ابن الأثير» فى كتابه «الكامل فى التاريخ». فقد طلب منه أن يعطى لأصحاب الشورى الستة مهلة لا تزيد على ثلاثة أيام، يصلى فيها بالناس، وقال له: «فإن اجتمع خمسة وأبى واحدٌ فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعةٌ وأبى اثنان فاضرب رأسيهما، وإن رضى ثلاثة رجلًا وثلاثة رجلًا فحكّموا عبدالله بن عمر، فإن لم يرضوا بحكم عبدالله ابن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع فيه الناس». كأن عمر بن الخطاب توقع الفتنة التى ستجرى أحداثها بعد ذلك، وأن خلافًا حتميًا سيقع بين أصحاب الشورى، فعهد بمهمة الحسم إلى صهيب الرومى، ولم يحتج الأمر إلى أن يُعمل الرجل سيفه فى أى من الستة، بعد أن أدار عبدالرحمن بن عوف الأمر بصورة أفضت إلى تولى عثمان بن عفان الأمر.

سارت الأمور أيام عثمان كما تعلم، وانتهى المشهد باضطرابات واسعة، أثارها عدد من المسلمين من الكوفة والبصرة ومصر، وحوصر قصر عثمان، وتسوره عدد من المتمردين، وتمكنوا من اغتيال الخليفة عام ٣٥ هجرية، وقبل على بن أبى طالب أن يلى الأمر من بعده. ويكاد يكون صهيب الرومى المستضعف الوحيد الذى عاصر الفتنة ولم يتحيز لعلى بن أبى طالب، كما فعل خباب بن الأرت وعمار بن ياسر، على سبيل المثال، بل لقد كان من بين الرافضين مبايعة على كخليفة لعثمان، وشاركه فى ذلك عدد من الصحابة، مثل طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، اللذين بايعا «عليًا» وهما مكرهان. كان «صهيب» يراقب ما يحدث ويدعو الله ألا تتعمق الفتنة بين المسلمين أكثر من ذلك. 

المسألة لم تكن بالنسبة له مسألة تحيز لطرف دون طرف داخل مربع الصراع، بل كان جل همه تهدئة الأمور وتجنب شبح الحرب الأهلية بين المسلمين، لذلك تجد صهيبًا يعتب على أسامة بن زيد، حين بادر الأخير فى موقف من المواقف إلى التصريح بأن طلحة والزبير بايعا «عليًا» وهما مكرهان، لحظتها نظر إلى أسامة بغضب، وأخذه من يده إلى منزله وقال له: أما وسعك ما وسعنا من السكوت؟

كان موقف «صهيب» من الفتنة موقفًا وسطًا بين من اعتزلوها وأبوا على أنفسهم أن يضعوا يدهم فيها، مثل سعد بن أبى وقاص، ومن تورطوا فيها وشاركوا فى أحداثها، مثل طلحة والزبير. أراد الرجل التهدئة والإصلاح بين الفئتين المتعاركتين من المسلمين. كان له رأيه فى مآلات الأمور بعد عمر بن الخطاب، وكانت له تحفظاته على أداء عثمان، لكنه أيضًا كان ضد الاضطرابات التى اندلعت ضده ومحاصرة داره، ثم اغتياله بعد ذلك، ولم يقتنع بما آلت إليه الأمور بعدها، وما فعله المتمردون بمدينة رسول الله من موبقات بعد اغتيال الخليفة، ويبدو أيضًا أنه لم يكن مقتنعًا برضوخ على لهم حين ضغطوا عليه ليتولى أمر المسلمين، لذلك انسحب من بيعته، لكنه لم يعمل ضده، بل على العكس كان يحاول إطفاء نار الفتنة قدر ما يستطيع، وليس أدل على ذلك من موقفه من أسامة بن زيد، حين صرخ قائلًا إن طلحة والزبير بايعا عليًا وهما مكرهان. فالأمر لحظتها لم يكن يحتمل سكب المزيد من الزيت على النار، فكان السكوت أوجب.

كان العمر قد جرى بصهيب الرومى، ولم يكن له من رغبة فى شىء قبل مغادرة الحياة، سوى أن يرى المسلمين كما عهدهم معتصمين بحبل الله جميعًا، لكن أمر الله نافذ، وقد عاش أيامه الأخيرة حزينًا لما آلت إليه الحال، وتوفى بالمدينة المنورة فى شوال من سنة ٣٨ هجرية وعمره سبعون سنة.. إنه الرجل الذى ربح نفسه.