رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ليونيل ميسي.. أرسين لوبين «اللص النبيل»

ليونيل ميسي
ليونيل ميسي

اللص الظريف الذي لا يمارس هوايته سوى في القصور والقلاع والصالونات، اللص الذي تسلل ليلة إلى قصر البارون شولمان، ثم خرج بعد أن ترك على مكتب البارون بطاقته وعليها “أرسين لوبين، الرجل المحترم سيعود عندما تصبح مجوهراتك أصلية” (1)
 


وحقق قائد منتخب الأرجنتين، ونجم باريس سان جيرمان، ليونيل ميسي، بطولة كأس العالم، قطر 2022، بالفوز على فرنسا في المباراة النهائية بركلات الترجيح، في آخر مباراة له بالمونديال.

فما علاقة ميسي بأرسين لوبين؟ ولماذا اخترنا هذا الاقتباس كمقدمة للحديث؟ هذا ما تجيبكم عنه السطور الآتية.

كيف بدأ أرسين لوبين وأين ظهر؟!

في يونيو من عام 1905، خطفت مجلة كل شيء الفرنسية، في عددها الثاني الأنظار، عندما اتفقت مع الكاتب موريس لوبلان، لنشر قصة قصيرة من كتابته، وبالفعل نشرت قصة "أرسين لوبين.. اللص الظريف".

أسلوب لوبلان الشيق استطاع خطف قلوب القراء، وتوالى نشر القصص حتى وصلت لـ17 رواية، و39 قصة قصيرة.

وتدور أحداث روايات أرسين لوبين، عن لص نبيل، جنتلمان، لا يسرق إلا الأغنياء، ودائمًا ما يجد طريقة للهروب؛ ينتصر للفقراء ويضرب أغنياء المدينة ويدخل قصورهم العتيدة وقلاعهم، ثم يخرج منها حاملًا مجوهراتهم بعد أن ترك بطاقة موقعه باسمه. (2)

أرسين لوبين، انحاز دومًا للكادحين، لأصحاب المهن المهمشة؛ وضرب بيده على طفيليات المدينة، وأصحاب المهن رفيعة المستوى، والذين رآهم دومًا لا يستحقون تلك الأموال، لكنه رجل نبيل لم يكن يقتل أي شخص، ولا حتى الشرطي الذي يواجهه.

حيل لوبين الذكية، كانت دومًا تجعله أسبق من منافسيه بخطوة؛ ففي كل مرة تظن أنك اقتربت من حل ألغازه والقبض عليه، يكون هو قد أنهى مهمته بنجاح ويقف في مكان ما حولك، ينظر إليك ويضحك بعد أن أسحرتك موهبته مرة أخرى؛ ثم يعود لمنزله كأنه أنهى لتوه عمله في أحد مقاهي باريس. (3)

أما رشاقته، فكان لوبين يتحرك بخفة تشبه راقصي الباليه، هنا يقفز على أسطح العقارات، وهناك يعبر من نافذة ضيقة؛ ثم يقفز من عقار لآخر، ويركض في حواري باريس غير مكترث بأي شيء، فقط يواصل أعماله النبيلة؛ ويقف بجوار المهمشين والمظلومين؛ أمام سلطوية الأغنياء ونفوذهم. (4)

منديل الطعام الذي دخل التاريخ

الرابع والعشرون من يونيو 1987، مقاطعة "سانتا في" جنوب مدينة روساريو بالأرجنتين، ولد ليونيل أندريس ميسي كوتشيتيني، طفل ذي ملامح لاتينية ببشرة بيضاء وشعر أشقر، الأمور كانت طبيعية حتى وصوله لسن الحادية عشر، عندما اكتشف والده أنه يعاني من مرض نقص هرمونات النمو، وأن تكلفة علاجه باهظة للغاية.

وبدأ ميسي رحلته في كرة القدم مع فريق جراندولي المحلي، والذي كان يدربه والده؛ ثم انتقل لنيو أولد بويز في عام 1995؛ وأثناء تواجد أحد كشافة نادي برشلونة الإسباني في الأرجنتين، شاهد ليو يلعب مع فريق نيو أولد بويز، وتواصل على الفور بكارلوس ريكساش، المدير الرياضي للنادي آنذاك، وعرض اللاعب على الفريق الكتالوني، وانتقل ميسي مع والده لإسبانيا ليعرض موهبته على إدارة النادي الكتالوني، وأصابهم مستواه بالدهشة؛ وعرضوا على والده تكفل النادي بعلاجه، وتم توقيع الاتفاق المبدئي بين ميسي وبرشلونة على منديل طعام؛ لتبدأ رحلة ليو ميسي، أسطورة الكرة.

منديل الطعام الذي كتب عليه أول اتفاق بين ميسي وبرشلونة



ليونيل ميسي.. اللص الظريف عاد للحياة

ربما أصابتك الحيرة عزيزي القارئ، أثناء مطالعتك للسطور الافتتاحية لهذا التقرير؛ والحديث عن قصص لوبين الخيالية، وجرائمه الظريفة، وشخصيته النبيلة.

الحقيقة أن ليونيل ميسي هو تجسيد واضح لحقيقة أرسين لوبين، فكلاهما امتلك الخفة والرشاقة في ارتكاب جرائمهما وهو بالضبط ما قدمه الأرجنتيني ذو الأصول الإيطالية، منذ يومه الأول مع برشلونة إذ تساقط أمامه كل المدافعين، وكان مجرد محاولة إيقافه أو إبعاده عن هدفه درباً من الجنون.

ليونيل ميسي لم يعشق سوى الذهب، وعرف معانقته منذ أن وطأت قدمه أرض ملعب إسبانيول في مباراته الأولى مع برشلونة في 2006، وحتى حصوله على ستة ألقاب في موسم واحد؛ واقتحم القلاع الحصينة لسانتياجو برنابيو، وقتلهم بسداسية ثم عاد وضربهم بخماسية أخرى؛ ولأنه ميسي، لأنه يسرق الفرحة من منافسيها ويسكنها في قلوب مشجعيه ومحبيه، ويدخل كل القلاع الحصينة ويفرز مقتنياته بين الذهب الأصلي والمقلد؛ فيترك الأخيرة ويحتفظ بالأولى غير عابئ بأي شيء سوى برد الجميل لمن منحوه الحياة، للنادي الذي جعله يعانق السماء، ووضعه تحت الأضواء؛ فأعاد لهم أمجاد الذهب، واستطاع أن يجعل قلعة كامب نو، مكانًا مرعبًا لأي شخص يحاول الدخول لها. (1)

رشاقة لا تصدق، وذكاء لا يمكن أن يصل له عقل بشري؛ ربما هذا الوصف يكون مقاربًا لحقيقة ليونيل ميسي، ولكن كيف لك أن ترى لاعبًا يراقص كل هؤلاء، وهنا يؤرجح راموس، وهناك يسقط باولو مالديني! يا إلهي، مالديني سقط أرضًا أمام ذلك البرغوث، روبرتو كارلوس أيضًا يا عزيزي لم يستطع أن يقاوم رشاقته ومهارته، فسقط هو الآخر أمامه وتوالت الضحية بين نيستا وبيبي وبواتينج، وفاران، وغيرهم من أفضل مدافعي اللعبة، الكرة نفسها أحبت التواجد بين قدميه، كأنها اجتذبت لقطب مغناطيسي فلا تتحرك إلا بأمر منه، ولا تخرج عن إرادته، فأينما وجهها كانت تذهب، وأينما أراد عقله أن يحرك خصره وقدميه، كانتا تذهبان بانسيابية غريبة، لا يصدق أحد أنها لدى بشر؛ فيمر من بين مدافعي خصومه بهدوء كأنه لا يفعل شيئاً أساسًا، يراهم حوله أصنام ثابتة لا تقدر على فعل شيء؛ فقط يفسحون له المجال للمرور نحو المرمى. (4) (2)

لم تتوقف حيل ميسي عن تحقيق ألقاب الكتلان فقط، بل أعاد جميلة الكوبا إلى أحضان أرجنتينا في 2021، أسقط البرازيليين في ماراكانا، في معقلهم ودارهم.. انتصر عليهم وعانق الذهب، المعدن الذي أحبه دائمًا.

ميسي وكوبا أمريكا

 

ذكاء ابن روساريو جعله دائمًا في المركز الأول، تفكيره لم يكن عاديًا، فحتى عندما تظن أنك قد قرأت ما يدور برأسه، فإنه يفعله وينطلي عليك أيضًا بالضبط كأرسين لوبين، وفي كل مرة ظن فيها أنه قد توقف وأن المدافعين قد نجحوا في إيقافه، فهو يجد طريقة دائمًا للوصول للمرمى، ليقف كل من واجهوه احترامًا له، يصفقون دون توقف على مسيرة تاريخية، كان فيها دائمًا الأسبق وصاحب المبادرة ولو بالتفكير، فعقل ميسي ليس كباقي البشر.

 

 دومًا ما أصابني إحباط أثناء مشاهدة الأرجنتيني، في لقطة أعلم جيدًا أنه سيراوغ المدافع على جهة معينة، والمدافع يعلم ذلك أيضًا، حتى إن أصحاب المقاهي والباعة الجائلين باتوا يعلمون ذلك؛ ويراوغه بالفعل في تلك الجهة، وانظر ما سيحدث؟ ينجح مرة أخرى في المرور بنفس البساطة والهدوء والسلاسة؛ دائمًا ما كان يجعل الأمور صعبة على منافسيه، وسهلة عليه؛ وبعد كل هذا يعود لمنزله ويجلس في هدوء وسط زوجته وأطفاله ليشاهد التلفاز أو يلعب مع حيوانه الأليف،  بعد أن ترك اسمه لامعًا على كل الصحف  وعبر مواقع الإنترنت، وأثار النشوة في أجساد محبيه ومتابعي الكرة بأضعاف ما يثيرها الجنس! أي هدوء لعين امتلكه هذا البرغوث؟ (3) (1)
 

 

والآن.. وبعد أن عانق ميسي محبوبته، وأكمل القطعة الناقصة في أحجية بطولاته، لا يسعنا إلا أن نصلي لله جميعًا.. بمختلف دياناتنا، نتضرع لله ونشكره على تلك السنوات التي لم تتوقف فيها المتعة، جميعنا محظوظون فقد شاهدنا ميسي!