رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى».. دروس الست للمثقفين والفنانين العرب

جريدة الدستور

ما هو دور المثقف أو الفنان فى المجتمع؟ سؤال قد يبدو شديد الغرابة، مع أننا بحاجة ماسة إلى البحث عن إجابة له، قبل أن نحاول البحث عن إجابة لهذا السؤال سنحكى باختصار قصة فتاة ريفية ولدت فى أواخر القرن التاسع عشر فى قرية ريفية صغيرة وفقيرة بأحد مراكز محافظة الدقهلية، واحدة من ملايين البشر الذين كان يأكل الجهل والفقر نفوسهم فى بلد محتل.. إلا أن القدر والظروف اتحدا مع الموهبة والإصرار والعزيمة، فأصبحت هذه الفتاة الريفية إحدى أهم السيدات ليس فقط فى تاريخ بلدها بل فى تاريخ أمة بأكملها، بل إنها ستعمل طوال عمرها على رفعة وطنها ومساعدته وتغييره وتمثيله بأحسن ما يكون فى لحظات الضعف قبل لحظات النصر.

 

وفى أحد أهم الكتب التى صدرت هذا العام، وهو كتاب «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى» للكاتب والباحث كريم جمال الصادر عن دار تنمية للنشر والتوزيع، يقدم الكاتب تقصيًا وتتبعًا رائعًا للقارئ العربى، عن كل ما قدمته أم كلثوم ليس فقط لمصر بل للأمة العربية، وهى أشياء تتجاوز فكرة أنها مجرد فنانة أو مطربة، أى أنها قدمت ما يتجاوز حنجرتها وصوتها بكثير جدًا، ففى بعض اللحظات كانت هى وأمام العالم أجمع تثبت أن المرأة العربية قادرة على التأثير والتغيير، وفى لحظات الهزيمة العسكرية حاولت أن تثبت للعالم أجمع أن إرادتنا قوية وصلبة وأننا أبدًا لن ننهار.

يقول المايسترو سليم سحاب فى تقديمه للكتاب:

«كثير من صفحات الكتاب تصل بالقارئ إلى إدماع عينيه تأثرًا من الحرارة التى انطوت عليها الكتابة».

ولعل الشعور الذى أصاب المايسترو أثناء قراءته الكتاب هو نفس الشعور الذى راودنى منذ الفصل الأول حتى نهاية الكتاب، فالكتاب لم يقع فى فخ الكلام المكرر والتقليدى، بل استطاع الكاتب ومن الصفحة الأولى تقديم كل ما هو جديد بالنسبة للقارئ، بل جعل قارئًا لم يرَ ولم يعاصر أم كلثوم، وربما لم يصل إليه إلا بعض أغانيها عن طريق الصدفة، يقترب منها، ويسافر معها العالم، سواء داخل الوطن العربى أو خارجه، يقابل معها أهم الشخصيات فى التاريخ، فاتن حمامة ويوسف شاهين وجارة القمر فيروز وغيرهم من الرؤساء والأمراء، يلمس مشاعرها فى لحظات الفرح والحزن، فى الفخر والانكسار، فى الإصرار والضعف.

الكتاب يركز على ما قامت به أم كلثوم بعدما سمعت خطاب تنحى عبدالناصر يوم ٩ يونيو ١٩٦٧، حيث أدركت هزيمة الجيش المصرى والعربى، وهو «مجهود دام ست سنوات كاملة، لم تتخلّف فيها أم كلثوم يومًا عن أن تكون لبلدها عونًا ولأمّتها سندًا فى تلك المحنة القاسية».

تقول أم كلثوم:

«‏أبيت أن أستسلم لليأس بعد النكسة، لم يكن أمامى إلا أحد أمرين: فإمّا أن ألتزم الصمت، وأقبع فى ركن من الانهيار النفسى، وإمّا أن أمضى بسلاحى، وهو صوتى، أبذل ما أستطيع من جهد من أجل المعركة، واخترت الأمر الثانى، ‏أحسست أنّنى أكون سلبية لو امتنعت عن الغناء، وأحسست أنّنى أقف وراء رسالة عبدالناصر، لو غنيت داخل الحدود وخارج الحدود، لأرفع صوتى باسم وطنى، وأجمع ما أستطيع أن أجمع من عدة وعتاد من أجل المعركة، لعلى أرد بعض جمِيل مصر».

ونرى فى الكتاب سر العلاقة التى جمعت بين الرئيس عبدالناصر زعيم الثورة، وأم كلثوم، التى كان يحبها عبدالناصر ويرى فيها نموذجًا للإنسان الذى صعد بقوة الموهبة والإصرار إلى قمة الهرم الاجتماعى، وربما رأى فيها عبدالناصر جزءًا من نفسه، فهو أيضًا واحد من أبناء الطبقة الفقيرة والمتوسطة، الذى صعد درجات السلم الاجتماعى وبلغ ذروة النجومية والزعامة بدافع الإصرار والإرادة، و«كان عبدالناصر يرى فى أم كلثوم ركنًا أساسيًا فى تدعيم مشروعه القومى العربى، وسلاحًا سريًا خطيرًا فى توصيل أفكاره وتكثيف حضور أهدافه فى الوعى العربى».

وبالتالى كان وقع الهزيمة على أم كلثوم، التى لم تتوقع أبدًا انتكاس هذه الأمة، تحديدًا بعدما طمأنها المشير عامر بنفسه على الأوضاع قبل وقوع الكارثة، والتى وصفت محمد حسنين هيكل بأنه عقلانى لدرجة البرود، لأنه فقط كان يرى أن الحماس الذى يسود الشارع حيث الجميع يرى أن هزيمة إسرائيل وتحرير فلسطين مسألة وقت ليس إلا، شىء غير إيجابى وأنه يجب النظر إلى العدو وقوته بشىء من الجدية أكثر، وبالتالى سقطت النكسة كحجر ثقيل على رأس أم كلثوم، كما سقطت على رءوس المصريين، لتنسحب فور علمها بالخبر المزلزل باكية من جلستها العائلية، ونزلت إلى «بدروم» فيلتها الذى كان مجهزًا من أجل بروفات أغنياتها، إذ كان من طقوسها الخاصة حين تمر بكارثة كبرى، أن تنزل إلى «بدروم» المنزل، وتعيش فى خلوة شبه صامتة، تغلق عليها كل باب، وتطفئ كل الأنوار، وتربط رأسها بمنديل لعله يخفف بعض الآلام، وترفض الحديث مع الجميع. كانت أم كلثوم فى تلك اللحظة تريد أن تفكر فى المصير والقضية، وأن تجد مخرجًا لأزمة مصر وأزمتها الذاتية.

ولكن بعد تفكير رأت أم كلثوم أن دورها كمثقفة وفنانة يتجاوز فكرة الصمت، حيث إن هزيمة الروح المصرية أكثر خطورة من الهزيمة العسكرية، وكان لا بد من «ثبات الروح المصرية وإزالة آثار العدوان على المستويين المادى والنفسى». ومن هنا لا تكتفى السيدة بالغناء، بل قامت ببعض المبادرات لصالح المجهود الحربى، وعلى سبيل المثال فبعد أيام قليلة من الهزيمة نراها فى يوم ٢٠ يونيو ١٩٦٧ تحول شيكًا بمبلغ ٢٠ ألف جنيه إلى خزانة الدولة المصرية.

وهنا نقطة شديدة الأهمية يجب التوقف عندها، وهى أن هذا التبرع كان سريًا للغاية، ولولا تسريب أحد العاملين للخبر أو المعلومة لما عرفنا نحن شيئًا، فأم كلثوم لم تفعل هذا من أجل أن يتحدث عنها الناس قائلين إن أم كلثوم تبرعت بمبلغ كبير جدًا بمقاييس تلك الفترة من أجل كسب المزيد من الشهرة أو من أجل نيل رضا الجماهير، بل فعلت ذلك مؤمنة بما يطلبه منها وطنها.

وبعد ذلك لم تتوقف المبادرات المساعدة والمساندة للوطن، فنراها تؤسس «هيئة التجمع الوطنى للمرأة المصرية» لإسعاف الجنود المصابين وتوحيد صف سيدات مصر، وبعد ذلك نراها تقود حملة أخرى للتبرع بالذهب وتتبرع هى فقط بكيسين كبيرين بداخلهما ألفا جنيه ذهبًا وزنهما ١٥ كيلو و٨٠٠ جرام.

بعد ذلك تجوب أم كلثوم العالم وتقيم الحفلات وتتبرع بدخل هذه الحفلات لصالح المجهود الحربى، وحين تسافر إلى باريس التى كان يقيم فيها عدد كبير من اليهود، تجبر اليهود على احترامها وعلى الاستماع لصوتها، وتجبر الجميع على احترامها كمثال للمرأة المصرية المخلصة لوطنها فى أوقات الضعف، ومن باريس تعود أم كلثوم ليزداد نشاطها وتجوب جميع أنحاء الوطن العربى من المحيط إلى الخليج، قارئ الكتاب يصاحب أم كلثوم فى أسفارها، من المغرب لليبيا للسودان للإمارات وكل الدول العربية، حتى إنها وفى بعض الأحيان كانت تعمل على إصلاح العلاقات التى أفسدتها السياسة، فنرى أنها وبزيارتها تونس قد أعادت العلاقات بين مصر وتونس من جديد بعد فترة من التوتر أصابت العلاقة بين البلدين.

ونراها تغنى لصالح المهجرين من مدن القناة بعد العدوان الإسرائيلى الذى حدث ردًا على إغراق المدمرة إيلات. وغيرها من البطولات التى قامت بها أم كلثوم والتى تستحق التأريخ والتسجيل والرصد، والتى سجلها ودونها الكاتب ببراعة ومحبة كبيرة. فهى وفى عهد ناصر أصبحت بشكل رسمى سفيرة لمصر وليست مجرد مغنية.

هنا أنت أمام نموذج لما يجب أن يكون عليه المثقف أو الفنان، فأم كلثوم لم تفعل هذا مجبرة، بل مُحبة، وخير دليل على هذا أنها بعد وفاة عبدالناصر أصابها حزن يصل إلى حد الاكتئاب، بل نراها تقول:

«يا خسارة وألف خسارة.. يا خسارتك يا جمال». أى أنها لو كانت تفعل ذلك لنيل رضا الرئيس أو التقرب منه لما حزنت على رحيله، وكانت صرحت قبل ذلك بأن أعظم ما فى عبدالناصر أنه إنسان.

ربما هذا الاتهام الذى هو جزء من مجموعة اتهامات وجهت إلى أم كلثوم من قبل جماعات الإسلام السياسى تلك الجماعات المنافقة التى تحاول ضرب الهوية المصرية، حين قالوا وهم يعتدون على ضميرها الإنسانى إنها كانت تقوم بذلك مرغمة ومجبرة، يبرز مدى الخلاف الفكرى بين أم كلثوم وهؤلاء القوم المتخلفين الذين يحقرون من شأن المرأة، وينظرون إليها كعورة يجب سترها وتحجيبها وحجبها عن أعين الناس، لا يعلمون أن تلك المرأة، ساعدت وطنها وفعلت لوطنها ما لم يفعلوه هم طوال تاريخهم.

فى النهاية إن هذا «الكتاب ليس فقط حكاية حب لأم كلثوم، ولا توثيقًا لصفحة مشرقة فى تاريخ فن الغناء المصرى الحديث، بل إضاءة على دور كبير لسيدة مصرية صعدت بقوة الإيمان والعمل إلى قمة القمم، معتمدة فقط على المثابرة والجهد والإخلاص لأرضها وترابها الذى نبتت منه وعاشت من أجله، ذلك الكتاب مجرد إضاءة عابرة على زمن جميل مضى، زمن كان فنّانه يشبك مع أحداثه، ويعايش أتراح وطنه قبل أفراحه، ويجنّد نفسه فى خدمة قضاياه، وهو ما نحتاج إليه اليوم جميعًا، لعلّنا ننجو مما وصلنا إليه من ملهاة ومأساة».