رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إيمان خطاب تكتب: سحر الأمير.. إعادة تشكيل عناصر الكون بالمقلوب!

إيمان خطاب
إيمان خطاب

"الخيال في أعمق معانيه: وهو القدرة على تشكيل الحقيقة من العناصر المتفرقة..تصور الأشياء تصورا يشكل منها حياة نابضة..تركيب أجزاء صغيرة متناثرة غير ملاحظة تركيبا يبرز خلقا كاملا للحقيقة...".

 

هذا ما قاله توفيق الحكيم عن أهمية عامل الخيال في الفن، فى كتابه عدالة وفن والذي يضم مجموعة قصص قصيرة.. تربط الحياة والمواقف اليومية والمصيرية للبشر بالفن بمعناه الأشمل والأعم في الحياة..ومن خلال عمله السابق في النيابة ..حيث يقف المتهم أمام القاضي وبينهم ممثل النيابة والمحامين والشهود..انها الحياة والعدالة..ولكن أين الفن؟

يكمن الفن في الغرابة في الخروج على المألوف في الرؤية من ثقب الروح..لعالم بأكمله يبدو واقعيا..ولكنه في الحقيقة بعض من تصورنا. 

تقول سحر الأمير إنها عندما كانت تمشي ذات يوم في أحد شوارع المعادي، نظرت إلى زرقة السماء الصافية وقالت:" لماذا لا أمشي على السماء و بين السحاب..بينما تبدو الأرض تظللني في الأعلى!"

وهكذا بدأت فكرة معرضها الحالي..بمجرد شطحة خيال!

وسحر الأمير فنانة من أصول جنوبية مصرية وعاشت ودرست وحصلت على بكالوريوس فنون جميلة في أوائل التسعينيات من القرن العشرين من مدينة الإسكندرية العريقة حضاريا والثرية إنسانيا.

 

تفوقت سحر منذ تخرجها و حصلت على منحة لدراسة الفن في إيطاليا، والتي أقامت بها عدة معارض ثم عادت لتعمل وتعرض في القاهرة. حيث توالت مشاركاتها الفنية في الحركة التشكيلية المصرية بإقامة المعارض في قاعات الدولة والقاعات الخاصة، حيث كان النجاح حليفها دائما لتميز رؤيتها واختلافها.

بدأت سحر بالدخول إلى عالم الفن التشكيلي عن طريق رؤيتها المختلفة للأشياء وللكون والناتجة في اعتقادي إلى تركيبتها الحضارية الخاصة جدا، وإلى تجربتها الإنسانية الذاتية كفنانة انطلقت من الجنوب، من أسوان والنوبة حيث جذور الإشعاع الحضاري المصري ما زلت قائمة في الموروث الشعبي... لتتجه إلى الشمال إلى الإسكندرية حيث المجتمع الكوزمو بو ليتاني المختلط والمفتوح على مصراعيه لكل أطياف الثقافات والفنون والمعجون بالفن ولكنها لم تكتف او تهدأ ، فأكملت مسيرتها إلى أقصى الشمال وإلى أقصى و أعظم درجات الابداع وتجليات الحضارة الغربية في الفنون جميعا ...بدراستها واحتكاكها بالفنانين والفنون الأوروبية الحديثة فضلا عن التأثر بالطبع ،بالفن الكلاسيكى الغربى بكل جمالياته وابهاره.

 

من هنا تكونت مفردات الشخصية الفنية لسحر والتي ترجمتها إلى أعمال تضم العديد من التقنيات والخامات والألوان والعناصر والرموز ..وكانها دنيا أو عالم آخر ..يضج بالحياة وينشد الترتيب الخياطة بالقماش والاستعانة بالكولاج أحيانا وبالأقلام الجاف أو الفومستر أو أى وسيط كان يترائى لها بشكل مناسب فانه يدخل فورا في تشكيلاتها التي تبدو عفوية ورمزية وقوية البناء والتشكيل في ذات الوقت.

تبدو لوحاتها وكأنها قطع متناثرة من ألعاب طفولية مفككة أو مكسورة.. تحاول سحر جمع شتاتها وإعادة إصلاحه في تكوينات خيالية ...غاية فى الإيحاء والروعة.

وفي الحقيقة فإن هذة الأعمال الإبداعية تنتمى إلى فنون ما بعد الحداثة ...المستمدة من فلسفة التفكيك. 

وهى فلسفة تعتمد على( الهدم ) ولكن بشكل إيجابي وليس عدمي.

في كتابه ( الكينونة والزمن) قصد الفيلسوف هيدجر بالتفكيك، إعادة التشكيل والتكوين وليس الهدم، وأكتشاف الطابع الذى يربط العناصر ببعضها البعض.

وهذا ما تجسده سحر  تماما في أعمالها التشكيلية . 

  وكما يقول دريدا (الفيلسوف الفرنسي) والذي أسس لفكرة التفكيك إن الفلسفة التفكيكية تعتمد على آلية الإنتشار وتناثر المعنى، وهو يقصد بهذة الآلية أن المعنى يتوزع في عناصر الموضوع ولا يرتبط بعنصر واحد.

ومن هذة المقولة هدم دريدا فكرة مركزية المعنى، وبؤر  المعان التى ارتبطت بالعقلانية التى نادى بها الفلاسفة الحداثيون .

بالطبع لا تريد سحر تطبيق فكرة التفكيك تطبيقا لهذة الفلسفة ولكنها تنبع من داخلها ومن حسها المرهف بثقافة العصر ومتطلباته الفنية والفكرية.فقد عملت على تجزءة الموضوع أو التكوين التقليدي في اللوحة التشكيلية لتبدو وكأنها تتكون من عدة شظايا وعناصر متناثرة تبحث عنها عين المشاهد في محاولة لإعادة تركيبها من جديد في مخيلته... وخلق عوالم مختلفة تماما عن الواقع.

 

ويرجع ذلك أيضا إلى وعيها التام بأهمية بل وبأحقية المتلقي في المشاركة في الخلق الإبداعي بشكل أو بآخر وخلق حوار بينه وبين عناصر العمل بما يتطلب وعي وأدراك لما بين السطور كما يقول دريدا او لما بين رموز وعناصر العمل الفني وهذه هي غاية الفن في مرحلة ما بعد الحداثة.

 

ولذلك فإن لوحات سحر الأمير غنية ثرية محملة بمعان وأحلام ورؤي أشعاعات انسانية بريئة ..فى نقاء وبراءة وصدق  رسومات الكهوف او الحضارات القديمة ،كما أنها تظهر غموضا محببا كغموض أعمال السحر و الطقوس الدينية القديمة، فهى تشع طاقة وحياة .

وكما يصف ويحلل توفيق الحكيم الفن الحقيقي والمؤثر حقا بأنه الفن المشع ، و"أن أهمية الإشعاع الفني هي أنه يحدث طاقة تتولد منها طاقات يولد بعضها بعضا..إلى مالا نهاية.." 

وبهذا المعنى، تعتمد سحر في تكويناتها على طاقة الأشكال الهندسية البسيطة أيضا، حيث النقطة والدائرة والخطوط الزجزاجية المتعرجة ..وخطوط الأقلام والكولاج أحيانا.. وكأنها إحدى الساحرات تمارس طقوسا جنوبية قديمة مطرزة برموزا وموتيفات وأساليب معاصرة حديثة .وهذة هي معادلة وتوليفة سحر أو فلنقل سحر ( بكسر السين) سحر (بفتح السين) الخاص.

 

ولا أجمل من هذة العبارة التي يتوجه بها النائب توفيق الحكيم إلى زميله الطبيب الشرعي في القصة التي تحمل نفس الأسم (الطبيب الشرعي): "إنك من بضعة خيوط، وخصلة شعرات، استطعت أن تعيد بناء الحقيقة !..الفنان لا يفعل أكثر من ذلك، ببضعة ألفاظ أو ألوان أو أنغام يستطيع أن يعيد تركيب حقيقة هذا الوجود الإنساني! 

صدقت يا أيها الحكيم .