رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«هل إيلينا تعرف؟».. لعنة المعرفة تطارد الإنسان منذ عهد آدم عليه السلام حتى اليوم

الإنسان
الإنسان

الإنسان لا يعلم شيئًا لأن الإنسان ليس شيئًا، هذه الجملة التى قالها المستشرق الفرنسى مونتانى، ربما تلخص لنا هذه الرواية، التى تحكى سيرة إنسانة تحاول الوفاء «بواجبها تجاه النوع البشرى، لتحقق دورة أخرى من الولادة والنضج والتكاثر والموت، لتعلم أن شعلتها ستستمر فى العالم»، ولكن هذه الإنسانة تكتشف أنها كانت لا تعلم شيئًا بعد أن عاشت تعتقد أنها تملك المعرفة.

فى رواية إيلينا تعرف للكاتبة الأرجنتينية كلاوديا بينيرو، الصادرة عن دار العربى للنشر والتوزيع وترجمة نهى مصطفى. يتتبع القارئ سيرة إنسان يحاول تأمل الكون فى لحظات متأخرة من العمر، يحاول هذا الإنسان الذى وهن العظم منه واشتعل رأسه شيبًا التعرف على المعانى التى تخص الإنسانية وطرح الأسئلة العامة.

بطلة الرواية هى إيلينا التى يعثرون على ابنتها ريتا معلقة ببرج كنيسة، لا تصدق إيلينا ما يقال حولها من أن ابنتها ماتت منتحرة، فتسعى لمعرفة الحقيقة عن طريق ما تظن أنها تعرفه عن ابنتها، ولكن الحقيقة وبالرغم من تأكيد الكاتبة فى كل موضع بخلاف عنوان الرواية بأن إيلينا تعرف، أن إيلينا تكتشف أنها لا تعرف شيئًا، وبالرغم من ذلك تعتقد أنها تعرف.

فأنت هنا أمام سؤال هام الجهل مقابل المعرفة، إنسان يظن أنه يعرف مع أنه لا يعرف. يظن امتلاكه لمعرفة غير موجودة بالأساس.

تبدأ إيلينا رحلة تأملها مع لحظة موت ابنتها، لا يتوقف عقلها عن العمل، يقتحم القارئ عقل إيلينا ليعرف ما يدور به من صراعات، أول الأسئلة التى اقتحمت عقل إيلينا بعد وفاة ابنتها هو سؤال لماذا يتباهى الإنسان بكل شىء حتى إنه يتباهى بالموت.

«تعتقد إيلينا أنهم يختارون الصناديق الفاخرة فقط للتباهى، لماذا يفعلون ذلك إذا كانوا يعرفون أن النعش وما بداخله ليس مقدرًا لهم سوى التعفن وليس البقاء؟».

تزداد أسئلة إيلينا التى تعتقد أنها تعرف «أن الأمر لم يكن حادثة كما قال المحقق» يساور إيلينا الشك فى معرفتها المقامة على لا شىء، فتغوص فى دوامات أخرى من الحيرة، التى تفضى إلى طرح الأسئلة الكبيرة المنطلقة من الشك:

«تعتقد إيلينا أن الأمومة تأتى مع أشياء معينة، الأم تعرف طفلها، الأم تعرفه، الأم تحبه. هكذا يقولون، هكذا هو الأمر. لقد أحبت ابنتها ولا تزال تحبها رغم أن كلامهما معًا كان مثل ضربات السوط، حتى لو لم تعانق ابنتها أو تقبلها، فقد شعرت بحب الأم».

ولكن إيلينا التى بدأ القلق يساورها حيث إنها لا تعرف هل هى كانت تحب ابنتها أم لا، تريد أن تعرف هل ما زالت أمًا بالرغم من موت ابنتها الوحيدة؟

«هل ما زالت أمًا الآن رغم عدم وجود ابنتها؟ لو كانت هى التى ماتت، لأصبحت ريتا يتيمة. ما اسمها الآن بعد أن أصبحت دون ابنة؟ هل محا موت ريتا كونها أمًا؟».

ولكن إيلينا التى تعتقد أنها تعرف تقول: «سأحزن بمجرد أن أعرف الحقيقة كاملة، عندما أكتشف على من يقع اللوم وكيف انتهى المطاف بابنتى».

ويعتبر المشهد الذى تذهب فيه إيلينا إلى الكنيسة بحثًا عن الحقيقة والحوار الذى جمع بينها وبين الأب خوان، واحدًا من أهم المقاطع داخل الرواية، كيف يواجه رجال الدين المشاكل والأسئلة التى يعانى منها البشر؟ نرى الأب وهو ينظر إلى الحادثة من منظور دينى، حيث ريتا التى تخلصت من جسد لا تملكه، يظن الأب أنها تخلصت من جسدها لارتكابها خطيئة. يحاول الأب التحدث على لسان الإله، فتنبهه إيلينا قائلة:

«الاستيلاء على كلمة الرب وتكريسها لخدمة غرض خاص هو أعظم أفعال التكبر أيها الأب».

ولذلك كان من الطبيعى أن يرتكز دينها «على الطقوس والفلكلور والتقاليد أكثر منه على العقيدة أو الإيمان».

فإيلينا التى بحثت عن المعرفة فى كل الطرق ولم تجدها، بحثت عنها فى الدين عن طريق رجل الدين الذى يتحدث باسم الإله، ولكنها أيضًا لم تصل إلى شىء.

فى المجمل نحن أمام رواية تهتم بأسئلة إنسان لا يعرف شيئًا، رواية تختلف عما قدمته الكاتبة الأرجنتينية قبل ذلك، فهى رواية بوليسية ولكنها لا تقع فى فخ السذاجة الذى تقع فيه أغلب الروايات البوليسية، تترك الأجناسية والأشكال المتداولة لهذا النوع الأدبى لتنطلق إلى فضاء أوسع وأرحب.

هناك قضية جوهرية تمس واقع الإنسان تناقشها الرواية، فيخوض القارئ بعد أن يتوحد مع مأساة إيلينا رحلة، هى رحلة البحث عن المعرفة.. وبالرغم من كل ما يحدث له يحاول هذا الإنسان أن يعيش.