رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«طه الذى رأى».. رحلة فى الحياة الشخصية للعميد

طه حسين
طه حسين

بالرغم من أن طه حسين واحد من الذين كتبوا سيرتهم بأنفسهم، بل إن كتابة العميد لحياته كانت بمثابة نقطة انطلاق جديدة لما عُرف فيما بعد برواية السيرة والتى كانت ملهمة للعديد من الأدباء وعلى رأسهم نجيب محفوظ، الذى اعترف بأن كتاب «الأيام» من أكثر الأعمال تأثيرًا فى شخصيته وتكوينه الثقافى. ولكن بالرغم من كل هذا إلا أننا لا نزال لا نعرف الكثير عن حياة العميد، ولا تزال العديد من النقاط والتفاصيل التى تخص حياة واحد من أهم المفكرين العرب غامضة، وتظل الإجابات عن الأسئلة التى تخص حياة طه حسين ومعاركه ورحلاته لا وجود لها، ولذلك كان لا بد من وجود مثل هذه الرواية «طه الذى رأى» أيام ما بعد الأيام الصادرة حديثًا عن دار كلمة للنشر، لكاتبها حمدى البطران.

 

تعد الرواية فارقة للغاية ليس فقط لأنها تؤرخ لسيرة شخصية عظيمة، ولكن لأنها وبأسلوب السرد ولغتها الخاصة جدًا تعد شكلًا جديدًا من أشكال السرد الروائى. وتحديدًا فى رواية السيرة الذاتية، فالقارئ هنا ينظر ويرى وكأنه طه حسين، يخوض معه المعارك، يزور معه باريس، ويرى مشاعره تجاه وطنه ومن ثم حبه لزوجته وأبنائه. القارئ هنا يشاهد فيلمًا تسجيليًا يلتقط التفاصيل واللمحات الإنسانية التى قد تبدو بسيطة، لكنها تشكل حياة عظيمة.

تبدأ «حكاية العميد منذ أن عاد من بعثته فى الثالث والعشرين من سبتمبر ١٩١٩. كانت الباخرة لوتس تقترب من السواحل الإفريقية وهى تمخر عباب البحر فى طريقها إلى الإسكندرية، قادمة من مارسيليا وعليها العميد طه حسين وزوجته سوزان الفرنسية التى تزوجها فى عامه الثانى من بعثته لدراسة تاريخ الأدب فى السوربون فى أغسطس عام ١٩١٧». ومنذ وصول طه إلى رصيف الإسكندرية، ينقلنا الكاتب إلى زمن آخر، مصر فى منتصف القرن العشرين، وهى حقبة شديدة الأهمية فى تاريخنا الحديث والمعاصر على كل الأصعدة الاجتماعية والسياسية والثقافية، فهناك ثورة عظيمة أدت إلى خلخلة اجتماعية وإرباك الكثير من المفاهيم الخاطئة، وأظهرت مفاهيم أخرى، وهناك زلزلة عظيمة حدثت على المستوى الفردى للمواطن، وبلا شك تأثر العميد طه حسين بهذه الزلزلة التى أصابت الجميع وتحديدًا المثقفين، لنعرف داخل الرواية كيف «كان طه حسين غارقًا فى أفكار أخرى تتعلق بقلقه على حالة البلاد فى ظل الثورة، يقلبها ذات اليمين وذات الشمال كما تتقلب الباخرة فوق سطح البحر». الكتاب لا يضىء فقط جوانب جديدة فى حياة طه حسين، بل يعيد النظر فى ما رواه طه حسين بنفسه، حيث نتعرف من جديد على طفولته وعلى الطريقة التى تعايش بها مع العاهة، وشعوره بالاضطهاد، وكيف نشأ التحدى بداخله، التحدى شديد الخصوصية الذى أنار أمام عينيه نورًا جعله يرى كل ما لم يره الجميع حتى المبصرون. والذى غيّر مساره من شيخ ضرير يقرأ القرآن فى المآتم، إلى واحد من رواد الفكر والأدب فى تاريخ أمة بأكملها.

ننتقل ونتوقف أثناء القراءة إلى فترة شديدة الأهمية فى حياة العميد وهى الفترة التى قضاها داخل أروقة الأزهر، ليتأمل ومن ثم ينتقد النظام التعليمى والثقافى المهيمن ليس فقط على المؤسسة الدينية الكبيرة، بل على البلد ككل، لنعرف أن طه «لم تكن حياته فى الأزهر هينة أو سهلة، ولم يكن طريقه مفروشًا بالورود». ونرى تأثره بفكر وآراء مَن حاولوا إصلاح المؤسسة الدينية بل اعتبروا إصلاحها بداية كل إصلاح وعلى رأسهم الإمام محمد عبده.

نصل بعد ذلك إلى فترة أخرى شديدة الأهمية لأنها تعكس الكثير من أزمات الثقافة العربية ألا وهى المحنة التى تعرض لها العميد حيث «لم يكتفوا- أى الأعداء- هذه المرة بطرده من الكلية التى كان عنوانًا لعزتها وكرامتها وقوة نابضة فيها، وإنما أرادوا أيضًا إحراق كتبه، فأخذوا منه بيته الذى يسكن فيه وأغرقوه بالشتائم وحاولوا أن يحرموه من كل وسيلة للعيش».

القارئ هنا ينتقل لمشاهدة ومعايشة تلك الأزمة مع طه حسين لحظة بلحظة، حيث كان يجلس فى إيطاليا يستمع إلى موسيقى باخ، حين علم أن هناك برقية أرسلها الشيخ محمد المرصفى إليه، وأن هناك طعنًا قُدم للنيابة العامة لإعادة التحقيق فى قضيته، وأن هناك مظاهرات ينظمها طلاب الأزهر ضده لأنه فى نظرهم كافر وزنديق، بل إن شيخ الأزهر اعتبره يهين الإسلام والنبى الكريم، وأن هناك رئيسًا للوزراء يهدد بالاستقالة فى حالة المساس بطه حسين، كل هذا بسبب كتاب واحد، أى مجموعة من الحبر على الورق، شكلت كلمات أثارت كل هذا الغضب، وطرحت كل هذه الأسئلة التى لا تزال تؤرقنا حتى اليوم. تتبع الرواية نقطة انفجار وتفاصيل تلك القضية الخطيرة، التى خاضها طه حسين بكل شجاعة وجسارة، إنها شجاعة الذى يرى الحق، ويرى طريق الخير لبلاده ومستقبل أمته جيدًا ويرى أن تحرير العقل من الموروث، أو الذى يشده إلى أزمنة مرت أصبح ضروريًا، وللوصول لذلك لا بد وأن يصبح التعليم كالماء والهواء.

فى النهاية إن سيرة وحياة طه حسين لا تزال جديرة بالاهتمام، وتستحق الوقوف طويلًا أمامها، لنتأمل كل فترة ومرحلة عاشها هذا الشخص العظيم والإنسان النبيل، منذ الطفولة وحتى خروج الجنازة، ثمة هناك حياة يستحق أن يكتب عنها المجلدات والأبحاث، والروايات، لتفسير وتقصى المزيد من المعانى والمفاهيم، وأحد أهم هذه المفاهيم.. وبلا أدنى شك أن طه هو الوحيد الذى رأى.. ما لم يره الجميع.