رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«جزيرة المطففين».. روايةٌ عن خراب مستقبلى يؤسسه الحاضر

غلاف رواية جزيرة
غلاف رواية "جزيرة المطففين"

كانت للمنعطفات الزلقة التي مرّ بها العالم أجمع في العقود الأخيرة أثرها على الإنتاج الروائي العربي الذي لم يبرح الرغبة في تقصي أسباب الأزمات حينًا بالرجوع إلى التاريخ وحينًا آخر بالتوجه نحو التصوير الواقعي للراهن بكل تقلباته، وقد كان حضور الرواية الديستوبية؛ رواية المدينة الفاسدة، أحد تجليات هذا التأثُر بما صار من وقائع ومآلات وقف الإنسانُ العربي أمامها عاجزًا سوى من تشاؤم وقلق لا يُفارقه. 

تلّونت الرواية الديستوبيّة، رغم اشتراكها في عوالم سوداوية خرِبة ومقيتة، بأشكال شتى عكست حالة من الزخم والحماس لدى الروائيين العرب لهذا اللون الأدبي؛ فظهر بعضها إبان "الثورات العربية" ليرسم عالمًا مستقبليًا مظلمًا انطلاقًا من يأس فرضته اللحظة، والبعض الآخر آثار اللوذ بالخيال لتصوير مُستقبل مُظلم بيد أنه ليس ذا صلة ملحوظة بالراهن، فيما اتجهت أعمال أخرى لإطلاق صيحة تحذيرية من مُستقبل مُنتظر شديد البؤس يستمد ديستوبيته من مآسي الراهن ومآلاته.  

تنتمي رواية "جزيرة المطففين" للروائي اليمني حبيب سروري، الصادرة عن دار المتوسط، إلى هذا اللون الأخير من الروايات الديستوبية. 

وحبيب عبد الرب سروري كاتب وروائي يمني وأستاذ جامعي في علوم الكمبيوتر بفرنسا، صدر له عدد من الأعمال الروائية منها "ابنة سوسلوف" التي وصلت إلى قائمة البوكر الطويلة عام 2014، و"حفيد سندباد"، و"وحي" وغيرهم من الكتابات الروائية والفكريّة. 

الروائي اليمني حبيب سروري

عالم شاحب بلا عُمق 

الرواية إذًا هي خيال استباقي يستمد سوداويته من قتامة الواقع، ويوظف الخيال العلمي لا ليتنبأ بالمستقبل بل ليحذر مما قد يكون وما هو أقرب للتحقق بأكثر مما نتوقع. يقدم الكاتب توطئة لروايته تمنح تمهيدًا لما سيلقاه القارئ في متنها؛ ففي صفحة سوداء يُصدِّر الكاتب عمله بمقولة لآرتور رامبو في ديوانه إشراقات: "سيقوم عالم صغير شاحب وبلا عُمق"، وهي توطئة تمهيدية لعالم الرواية الديستوبي ولبدايتها المؤسسة للأجواء الكئيبة التي ستظلل النص: "الجو كالح كئيب، مشلول شبه جنائزي".

تبدأ الرواية بتلك الأجواء الكئيبة في مدينة كاليه شمال فرنسا، والتي استمدت أهميتها من كونها معبرًا نحو بريطانيا، وفي ليلة رأس السنة لعام 2020. في هذا الزمان والمكان، تتجمع ثلاثة خيوط تُشكِّل محاور الرواية الأساسية ومرتكزاتها للعبور نحو العالم المستقبلي القاتم؛ الخيط الأول هو أزمة اللاجئين الفارين من بلدانهم المُحترقة، والثاني هو وباء كوفيد وما فرضه من إجراءات احترازية عمّقت من العزلة والاستعاضة عن التجمعات البشريّة بالشاشات الإلكترونية، أما الخيط الثالث فهو المعبر نحو ديستوبيا المستقبل؛ وهو اللقاء الافتراضي مع سيدة قادمة من المستقبل في مهمة استقصائية والتي تسرد للراوي ملامح من الزمن القادم. 

التقاء الحاضر والمُستقبل 

يشرع الراوي في تصوير تلك الليلة القاتمة الشاهدة على الخيوط الثلاثة؛ فالراوي الذي جاء إلى المدينة في مهمة صحفية يلتقي برجلين؛ أحدهما من اليمن والآخر من الحبشة، قادمين من رحلات الموت في الهجرة غير الشرعية وهربوا حسبما يصف "من السجون والتعذيب والموت، من أجل مصير آخر رافض لقانون القدر الهمجي: (موطن ولادتك ميسم يحدد مصيرك)"، تحضر مأساة موطن الكاتب؛ اليمن الذي "يتمرغ في وحل الحروب والجوع والقهر والميليشيات أمام تجاهل العالم ونسيانه"،  بكثافة يأبى التخلي عنها، في وصفه للراهن عبر مأساة الرجلين الساعين للهروب إلى بريطانيا فرارًا من وطن يحترق؛ لتمتد ظلالها إلى المستقبل، حينما تتعمق مأساة شعوب عربية ستعيش مُهمشة ومقصية ومنبوذة في عالم الحكومة المُوحدة المستقبلي. 

كذلك فإن وباء كورونا، ما إن يشرع الراوي في وصف مآلاته في الراهن حتى يمد خيوط آثاره نحو المستقبل، فإن كان هذا الوباء قد "أعاد الإنسان إلى حجمه الحقيقي بعد أن تجاوزت غطرسته التكنولوجية السماء"، فإنه بالمستقبل وبعد سنوات من ظهور طفرات جديدة منه حتى باتت السيطرة عليه غير ممكنة، يكون سببًا وركيزة نحو البنيان المستقبلي الذي يُشيّده الكاتب؛ فالقيادة العالمية التي نجحت في تحجيمه هي التي ستقود الكوكب وتحكمه، والتي رغم هذا النجاح، لم تلتفت لوباء آخر سيجتاح البشرية في المستقبل سببه ودواؤه واحد؛ مزيد من التحديق في الشاشات الإلكترونية.

قيادة عامة للكوكب

يبدأ التأسيس للعالم المستقبلي منذ لقاء الراوي مع سيدة ثلاثينية في طريقه إلى "غاب كاليه"، قادمة من زمن مستقبلي لمهمة استقصائية حول أحد الفيروسات الغامضة التي لا يستطيع سكان المستقبل الفكاك منها يسميه "جائحة رقص العنكبوت"، وهو وباء يصيب مُقل العين، بات متحققًا بعد مراحل عدة مرّ بها فيروس كورونا بتنويعاته المختلفة إلى أن قضت عليه "حكومة الكوكب". 

تسرد السيدة بدايات تشكُل هذه القيادة، فبعد مراحل مرّ بها الفيروس، وبعد عجز الرعيل الثامن من اللقاحات عن مواكبة مقاومات تنوعات الفيروس، رضخت البشرية لبرنامج عملي صارم بتشكيل قيادة عامة وحكومة واحدة للكوكب كله، تفرض حجرًا مشددًا يمنع الخروج والاختلاط، ويعاقب الخارج عن قانون القيادة بالقتل حتى نجحت بالفعل في القضاء عليه، لتجمع العالم كله تحت قيادتها الموحدة؛ "قيادة عامة شفافة، قمعية حينًا وديمقراطية شكليًا غالبًا، وحّدت العالم في مدينة واحدة أُطلق عليها أطلس". 

العالم المستقبلي المتخيل إذًا هو مدينة أطلس التي تضم العالم أجمع، والتي يكتسب اسمها زخمًا دلاليًا فالأطلس يضم خرائط العالم وهو كذلك في الميثولوجيا الإغريقية يحمل قبة السماء على كتفيه. ومع ذلك، فإن الكاتب لا يكف عن أن يضع الحاضر في موازاة مع المستقبل المُتخيل؛ فالقيادة العامة لأطلس تلك ليست مستجدة تمامًا، إذ هي موجودة في الراهن؛ "الحق أن القيادة العامة كانت توجه العالم قبل ذلك سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا على نحو غير رسمي، وتضم كبار شركات التكنولوجيا الحديثة، وسلطات المنظمات الدولية العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وسلطات لجان حماية البيئة المنهارة".

منذ لحظة كوفيد، يتجمّع العالم في أطلس يحكمه قيادة عامة تسكن جزيرة هي جزيرة المطففين، والتي يسكنها كبار رجال المال والتكنولوجيا والاستخبارات التي توجه العالم وتقوده وتراقبه، كما تمتلك 99% من ثروات العالم، فيما ينقسم أطلس إلى أحياء أبرزها؛ حي ألف الذي هو امتداد للدول الغربيّة في الوقت الراهن،  وحي ياء الذي يضم سكان دول عربية مسحوقة ويمثل امتدادًا ديستوبيًا للواقع العربي الراهن.

ليست التناقضات بين حيي ألف وياء التي يُصورها الكاتب محض خيال أدبي، وإنما يمكن النظر إليها كتصوُر للمستقبل بالاتكاء على مُعطيات الراهن؛ فالهموم والانشغالات التي يصورها الكاتب لكل حي تعكس مفارقات واقعهم؛ حي ياء "يسير الزمن فيه بسرعة كبيرة إلى الخلف"، وما زال قابعًا في أوهام خلّفها فكر ديني مُتكلس وعادات اجتماعية بالية وأنظمة سياسية تجيد ممارسة الطغيان والتجهيل، هو حي المسحوقين والمنكوبين الذي تملؤه المستنقعات السوداء ويموت سُكانه في الحروب والإبادات الجماعية وجوعًا ومرضًا وشقاءً،  ذلك الحي القابع في أوهامه وضلالاته والعاجز عن الخروج من أنفاقه المظلمة التي - رغم كونه أداة في يد قوى عظمى تتلاعب به لتحقيق مصالحها- يتحمل جزءًا كبيرًا من المسئولية إزاءها بإصراره على الجهل والتعتيم.

أما حي ألف فيصفه الكاتب بأنه الأرقى، وحي شعوب الله المختارة، وهو منشغل بخلق مزيد من سُبل الراحة والسعادة، ويحتفل سُكانه بالعيد الوطني للقضاء على ولادة المعاقين وتجميل الجينيوم، كما أنهم في سعي حثيث لابتكار روبوتات ذكية لا تخطُر ببال، والوصول لتقنيات تطيل الأعمار وأخرى تعزز النشوة وغير ذلك من أفكار تعزز الرفاهية.

مصير البشرية ومآلها

يرسم الكاتب ملامح هذا العالم عبر أعين الراوي الذي لا اسم له في الرواية، والذي يعمل صحفيًا ووكيلًا سريًا، "يحركه سؤال: إلى أين تتجه البشرية في عالم اليوم، عالم التشظي وحروب الإبادة الذاتية؛ عالم اللاجئين والهاربين من الموت والظلم، عالم الفيروسات والجوائح المهلكة، عالم الروبوتات الذكية القاتلة غير المرئية؛ عالم الرقابة الإلكترونية الآلية على كل إنسان"، هذا الراوي الذي يُكلًف بمهمة تجسسية سريّة، تتفق واهتماماته، لمراقبة ثنائي يُعارض القوانين والنُظم الحاكمة لأطلس هما؛ فريد، الذي  يشغله التفكير في مصائر الناس وعلاقتها بتفكيرهم والذي أخبره موكله للتجسس بأنه "كاتب تخريبي"، وزريقة المُهتمة بتفكيك آليات الخراب وكشف صلة القيادة العامة به ونفاقها ونواياها الحقيقة. 

في هذا العالم الروائي، يرسم التطور التقني ملامح الديستوبيا فيما تصير اليوتوبيا هي "صومعة عداء التكنولوجيا والهروب منها"، وهي الصومعة التي تبلورت فيها أفكار فريد حول معاناة الإنسان المعاصر، والتي يصفها الكاتب بأنها " قرية طوباوية لا يوجد فيها هاتف نقال ولا شبكة انترنت ولا شاشة كبيوتر أو تلفاز". 

يكشف الكاتب في روايته عبر هذه المهمة التجسسية العوالم المظلمة التي ينتظرها العالم في ظل هيمنة تقنية لا فكاك منها، ويؤرخ لبدايتها مع أحداث سبتمبر 2001 التي دفعت القادة العالميين للبحث عن سُبل فرض الرقابة الشاملة لضمان مصالح القوى الاقتصادية والمالية المهيمنة، والتي يقدم تصورًا مستقبليًا لها، غير مستبعد بأية حال، يصل إلى حد رصد تحركات الأفراد بل وأفكارهم والاحتفاظ بها لدى قيادة عامة تبتغي إحكام قبضتها بأية وسيلة ممكنة. 

في المستقبل الذي يخشاه الكاتب ويحذر منه، تطبيقات إلكترونية تقرأ المراسلات والملفات وتُحلل كل الأنشطة الإلكترونية، وروبوتات تطورت كثيرًا وبدأت تستقل بنفسها وتتخذ قراراتها منفردة دون تدخل الإنسان، وسعي تكنولوجي لتطوير الجينات البشرية بحيث تصير ملائمة لعصر ما بعد الإنسانية وقادرة على التعايش فيه. 

تدحض الرواية فرضية سادت لقرون حول يوتوبيا التقدم التكنولوجي؛ جنة البشرية التي ستخلقها مزيد من الابتكارات ومزيد من المعرفة، فها هو العالم الديستوبي تتشكّل ملامحه جراء هيمنة تقنية يفقد فيها الإنسان حريته ويظل عرضة للعنف من قبل قوى عظمى لها سيطرة على المعلومات والتكنولوجيا، تبيت التكنولوجيا آنذاك لا ممرًا ينير العالم بل طريقًا مُعتمة صنعها الإنسان ووقع ضحيتها.