فى محبة بهاء طاهر
يعز علىّ ألا أكتب عن بهاء طاهر وإن جاء ذلك متأخرًا قليلًا، ويحضرنى فى وداعه تقليد يتبعه الأدباء الروس عند توديع أحدهم، إذ يلتفون حول جثمانه ويصفقون له دقيقة كاملة وهم يصيحون: «برافو»، ويتصاعد هدير الحناجر بالكلمة التى يقصدون بها أن الأديب الراحل قد عاش حياة مجيدة تستحق التحية والإعجاب. ومع الأسى الذى يرافق الوداع إلا أننى أهتف بالكاتب العظيم كانت حياتك ورواياتك وقصصك ومواقفك وتواضعك إسهامًا لا يُنسى فى تاريخ الأدب العربى.
وقد تعرفت إلى بهاء طاهر عام ١٩٦٧، كانت المرة الأولى التى أراه فيها، حدث ذلك حين دُعيت إلى البرنامج الثانى «واسمه الثقافى الآن» لقراءة قصة قصيرة، وفى الردهة استوقفنى بهاء طاهر، وكنت أعرفه من صوره فقط، وقال لى إنه قرأ قصتى الأخيرة المنشورة فى مجلة الكاتب. القصة كانت من ثلاثة مقاطع كتبتها كما يقولون على «نفس واحد» من دون أن أمسّ بالتغيير كلمة فيها، ثم عدت إلى المقطع الثانى وعدلت فيه وحده قليلًا.
أثنى بهاء طاهر على القصة ثم سألنى: «هل قمت بتعديلات على المقطع الثانى؟» وحل علىّ الذهول وأنا أتساءل: «كيف عرف ذلك؟ كأنه كان واقفًا خلف كتفى وأنا أكتب؟». فيما بعد أدركت أنها خبرة الكاتب الكبير. وحينما فزت لأول مرة بجائزة ساويرس عن مجموعة «كنارى» القصصية اتصلت به وسألته: «أنا لا أعرف شيئًا عن هذه الجائزة هل أقبلها؟». وسمعت تنهده فى التليفون، ثم قال: «طبعًا.. أنا لا أقدم أعمالى هناك فقط لكى لا أزاحم الكتاب الجدد».
وعندما احتشد المثقفون لإزاحة وزير الإخوان المسلمين كان بهاء حاضرًا وخضت معه نقاشًا حول أن المطلوب ليس فقط إزاحة وزير التيار الفكرى الإرهابى، ولكن أيضًا أن نقدم تصورًا أشمل عما نريده من وزارة الثقافة. ووافقنى، لكنه أضاف: «الآن هذا هو الممكن ولا تنس أن طرد ذلك الوزير هو أيضًا موقف من برنامج ثقافى رجعى».
ولم نكن نلتقى كثيرًا، لكن الاتصال كان مستمرًا على فترات. وقد لا يتسع المجال هنا لاستعراض أهمية أعمال بهاء طاهر ومكانتها، لكن لعل أعظم ما فى أدبه هو ذلك الصفاء الذى يشمل كل حرف، وكل شخصية، وكل عقدة فنية. حين تنتفى الكراهية بل والغضب المشروع يبقى للقارئ فقط لهب صافٍ من الشعور بالعالم، الأسى العميق، فى «الحب فى المنفى»، والقلق العظيم على الوطن فى «خالتى صفية والدير»، والنظرة البعيدة المدى لما يجرى فى أولى مجموعاته القصصية «الخطوبة».
وللمرة الأولى أشعر أننى أود لو امتدت الصفحات بلا نهاية لكى أكتب دون توقف عن ذلك الأديب العظيم الذى يقف بقصصه القصيرة ورواياته ما بين يوسف إدريس ونجيب محفوظ، وقد امتاز بهاء طاهر بالاختفاء التام لرؤيته السياسية والفكرية لقضايا تطور المجتمع الملحة لكى يبرز تلك الرؤى فقط من داخل الروح، وهى جزء من صميم الروح، لذلك لن نجد عند بهاء طاهر قصصًا زاعقة، أو رواية ترمى فقط إلى شىء محدد، إنه يتجاوز كل ذلك إلى ما هو أعم، وأشمل وأبعد من صراعات اللحظة. فى روايته «واحة الغروب» يقول بهاء طاهر على لسان إحدى الشخصيات: «فى النهاية سنموت مثل كل الناس.. لكن يجب ألا نموت مهزومين». كن واثقًا لحظة الوداع أنك انتصرت، وأنك بذلت كل جهدك لكى تضفى على مصر المزيد من الجمال والترفع والصفاء والعذوبة.
«برافو» أيها الأستاذ الكبير.. لقد عشت حياة جميلة ملهمة جديرة بالمحبة كلها وبالإعجاب.