رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الغالبية التى لم تعد صامتة.. ودورها الجديد فى مصر!

(١)

ماذا سيحدث يوم الحادى عشر من نوفمبر القادم؟

سوف يتوجه التلاميذ إلى مدارسهم والموظفون إلى أعمالهم، وسنشاهد الرئيس يمد يد العمران والإعمار إلى بقعة جديدة من أرض مصر وسيحتفى المصريون بالعلم المصرى وسترتفع لافتات تحيا مصر!

فى يوم ما كان هناك فى مصر ما يسمى (الغالبية الصامتة)، والتى كان صمتها عزوفًا حقيقيًا عن ممارسة واجبات المواطنة، ولم يكن منها من يعرف اسم رئيس وزراء مصر أو يتابع نشرات إخبارية..

كانت هذه الغالبية تثق فى أى محطة إخبارية إذاعية أو تليفزيونية إلا المحطات المصرية!

كانت قيادات الدولة تعلم ذلك وترضى به وترضى بأتوبيسات الموظفين التى تنقلهم إلى لجان الانتخابات وربما تتبارك ببعض أصوات الموتى!

كان هناك اتفاق صامت غير مكتوب بين جميع الأطراف، تتضخم الديون الخارجية للدولة لتغطية الدعم أو الرشوة الكبرى مقابل الانضمام للغالبية الصامتة، والاكتفاء بقوة دفع السنوات الأولى من بعد استشهاد السادات وبما تم إنجازه فى ملف البنية الأساسية قبل أن تستسلم الدولة تمامًا أمام جموح رغبات مواطنيها فى الإنجاب بلا رادع، والحصول على الرشاوى كاملة.

رضى المواطنون سنوات طويلة ورضيت القيادات الحاكمة بـ(اتفاق الشيطان) الذى دفعت البلاد ثمنه تخلفًا وفقرًا وسوء سمعة دولية فى ملفات الشفافية ومكافحة الفساد الوظيفى، وانهار الاقتصاد وفتكت الأمراض بالمصريين وعرفت مصر لأول مرة فى تاريخها المعاصر سبة أطفال الشوارع وسكان المقابر!

ومثلت تلك الأجواء بيئة مثالية لثعابين الجماعات الإرهابية والمتطرفة ومبدعى الفن الأسود الذين قدموا مصر للعالم الخارجى كأبشع ما يكون!

لقد منح (اتفاق الشيطان) هذا لجماعات الإرهاب كنزًا مجانيًا سهل لهم تجنيد الآلاف من شباب الفقراء بالجامعات، كما سهل لهم تكوين أضخم ظهير شعبى ساند التطرف فى تاريخ مصر!

وراجت صناعة سينما تجار اللحوم، واستباحة أعراض المصريين فى الداخل وفى دول الجوار بفضل منتجين ومخرجين أقرب لأغنياء الحروب ولصوص الموتى، حتى لو كان الجسد المستباح هو جسد وطن!

(٢)

فى تلك السنوات - والأخيرة منها بصفة خاصة - ظهرت على الساحة السياسية المصرية مفردات جديدة اختلفت فى دوافعها ونواياها وأهدافها ومحركيها، وكان منها ما هو سياسى خالص وما هو إعلامى خالص وما جمع بين الأذرع الإعلامية والتكوينات السياسية.

لم يتابع بدايات تلك المفردات وممثليها سوى قلة من المصريين ممن كانوا لا يزالون يهتمون بالشأن العام، بينما بقيت (الغالبية الصامتة) على حالها من عدم الاكتراث وصنفت جميع هؤلاء فى فئة عرائس الماريونيت التى قررت الطبقة الحاكمة الدفع بها كمساحيق تجميلية!

بينما اعتقدت القيادة الحاكمة أن هؤلاء اللاعبين الجدد يمكنهم القيام بدور حقيقى تنفيثى لما قد يتراكم فى صدور الغالبية الصامتة من مشاعر غضب أو تململ!

ومرة ثانية يستفيد طرف ثان من اتفاق الشيطان بين الغالبية الصامتة وقيادات دولة اللا موت واللا حياة..لقد أفاد هذه المرة من الموقف صحفيون ونشطاء سياسيون وملاك صحف وقنوات إعلامية، وقطعًا لم يهدر بارونات وأمراء الإرهاب الدموى الفرصة فامتلكوا بعض تلك الصحف وامتطوا ظهور ملاك ورؤساء مجالس إدارات البعض الآخر!

(٣)

فى السنوات العشر الأخيرة من عمر ذلك النظام، أو العقد الأول من الألفية الجديدة، تكررت بعض المشاهد التى لم يقدرها حق قدرها سوى من كانوا خلفها ومحركيها أو أبطالها أو مراقبيها فى مناطق أخرى بعيدة عن مصر لكنهم يعتقدون أن لهم حقًا كونيًا فى التدخل فى وقت ما!

تلك المشاهد هى النشاط اللافت من جانب هؤلاء اللاعبين الجدد من نقابيين وإعلاميين وزعماء أحزاب سياسية ورقية فى محاولة تثوير الغالبية الصامتة، وذلك بالاتكاء على فضح حالها ودغدغة مشاعرها وتهييجها. ثم تقديم أنفسهم كزعماء شعبيين، ومن فترة لأخرى القيام بمحاولة قياس قوتهم الذاتية ومدى النجاح الذى حققوه على الأرض..

وتم انتقاء أماكن بعينها فى القاهرة لتكون - بما تمثله من قيم أخلاقية ورمزية - هى ميادين الاختبار..مثل سلالم بعض النقابات التى تمثل قيم الحق والعدل والحرية، وسلالم منشآت سيادية قضائية!

لكن أيًا من تلك المشاهد كان قادرًا على تغيير اتفاق الشيطان أو حتى الإيحاء بقرب أى تغيير..

ولم يكن ذلك أبدًا بفعل الخوف من اللواء حبيب العادلى كما كان يتم الترويج، وإنما لاتخاذ الغالبية الصامتة قرارًا بإدارة ظهرها والتشبث بذلك الاتفاق بما تحصل عليه من مكتسبات تمثلت فى عدم العمل بجدية، واستمراء مظاهر الفساد، واستباحة ما يستطيع أى فرد الحصول عليه من المال العام، والتنصل من أى مسئولية جماعية عن أوضاع بلادهم، وغسل ضمائرهم بخطب دينية تدين الحكام وتقدم الغالبية الصامتة فى صورة الضحية!

لذلك فقط عزفت الغالبية الصامتة عن المشاركة فى تلك المشاهد، فالمصريون كانوا يستمتعون بالشكوى من الفساد فى كل مكان، لكنهم كانوا يتقاسمون هذا الفساد جميعًا، ولم يكونوا فى الحقيقة يرغبون فى أى تغيير بمعناه الحقيقى الجذرى، الذى سيتطلب منهم الالتزام القانونى الحقيقى والالتزام بساعات عمل حقيقية وعدم التهرب الضريبى وتجريم أى استيلاء على أموال أو ممتلكات الدولة، وتجريم تجارة الآثار والاحتكار وتقنين الاقتصاد الموازى الذى لا يخضع لأى قانون!

لقد كانت جميع أطراف المشهد ترضى به لما تحققه من مكاسب ذاتية...فطبقة الحكام لا ينازعهم نفوذهم منازع...وأمراء الدم استولوا على مساجد ومنابر مصر ومعها تبرعات المصريين.. وبعض مغامرى الإعلام شرعوا فى تكوين ثرواتهم... والغالبية تحيا بمنطق الخطف والفهلوة..كان هناك طرف واحد لم يستفد ودفع الثمن كاملًا..وهو الطرف الأهم .... مصر الدولة والوطن!

(٤)

استمر موقف (الغالبية الصامتة) لأكثر من عقد تكررت فيه مشاهد الوقوف على سلالم النقابات، ولم ترتق أية وقفة لأن تكون مقدمة مشاهد تغيير كبرى حقيقية، حتى قررت الغالبية الصامتة أن تفض اتفاق الشيطان مع نظامها الحاكم وأن تنضم بكامل إرادتها للتحالف الذى اختلطت فيه نوايا الشباب الرومانسية المشروعة بمطامع المغامرين الجدد وأمراء الإرهاب وعملاء الخارج!

توهم أبطال هذا التحالف أن لهم الفضل الأكبر فى تغيير الغالبية لقرارها المتجمد لسنوات طويلة، بينما كان السبب هو غضب الغالبية الصامتة من شريكها الحاكم، لأنه من وجهة نظرها قد نقض الاتفاق وتعدى الخط الأحمر بإهانتها بشكل مباشر وصريح، وذلك بمساسه أو عدم قدرته على تأمين أهم بنود الاتفاق...وهو رغيف الخبز المجانى، حتى لو كان مصيره فى القرى والنجوع بين أفواه الحيوانات المنزلية!

لقد اعتبرت الغالبية الصامتة أن اتفاقها قد تم إلغاؤه تلقائيًا مع أول واقعة صراع وطعن وموت فى سبيل الحصول على رغيف الخبز المجانى!

منذ أن قررت (الغالبية الصامتة) تغيير مقعدها من مقاعد المتفرجين للعب دور البطولة فى يناير ٢٠١١ لم تعد حتى الآن - ولن تعود - إلى تلك المقاعد مرة أخرى!

كان طبيعيًا جدًا بعد سنوات تجميد العقل والتفكير والكسل والتكلس والاستسلام لخطاب الخرافة والتطرف، أن تكون قدرات الأغلبية الصامتة فى الاختيار والقرار قدرات مأساوية كارثية..وأن يتغلب العبث بمشاعرها الدينية ودغدغتها ورغبتها فى الانتقام على إعمال العقل والمنطق، فكان أن دفعت مصر للمرة الثالثة ثمن تحرك الغالبية الصامتة كما دفعتها قبل ذلك ثمنًا لصمت نفس تلك الأغلبية!

الشعوب والأمم كالأفراد تمامًا، لكل منها شخصيته وتركيبته النفسية والأخلاقية، ويحدث أحيانًا أن تشرد أمة هنا أو هناك، لكنها فى لحظة حاسمة تستشعر خطر الفناء، فتنتفض وتتحفز خريطتها الجينية والنفسية وتسيطر على مشاعر الانتقام الهوجاء لديها فتروضها وتستفيق وتحاول إدراك الكارثة والتكفير عن خطاياها الكبرى!

هذا ما فعلته الغالبية الصامتة فى يونيو ٢٠١٣م، انتفضت وقررت التكفير عن بعض خطاياها فى حق هذه البلاد وبأضعف الإيمان وهو أن تستعيدها من أيدى الشيطان كما ألقت بها بين تلك الأيدى الدموية منذ أشهر قليلة!

(٥)

يمكننا القول إنه منذ تلك اللحظة لم تعد الأغلبية الصامتة صامتة! وعدم الصمت لا يعنى هنا الصوت الزاعق، فكما يقول الإنجليز فى مثلهم إن الأوانى الفارغة تصدر ضوضاء أكثر!

عدم الصمت هنا وفى الحالة المصرية يعنى أولًا القبول بفك حالة التجميد الذاتية عقلًا وضميرًا، وقبول تحمل المسئولية ومشاركتها وعدم توقع أى تدليل إنما تكليف بتحمل الأمانة!

ثم القدرة العقلية على الاختيار...والدفاع عن الاختيار..

إننى أعتقد أن الغالبية الصامتة فى مصر قد تغيرت فى كتلها الأهم والأكثر تأثيرًا تغيرات حقيقية...

فلم تعد تثق فى أى قنوات إخبارية غير مصرية كما كانت تفعل سابقًا، ولم تعد تستهويها خطابات دينية زاعقة أو خطابات تثويرية موجهة، واستجابت بشكل إيجابى للخطاب التنموى الواقعى على الأرض واستجابت لنداء الهوية..

وهذا ما لا يدركه هؤلاء الذين يعتقدون أنهم يستطيعون توجيه تلك الغالبية للفوضى وفقط باللعب بحقيقة غلاء الأسعار التى تجتاح العالم..

الغالبية الصامتة فى القرى والنجوع رأت وشاركت وجنت فى سنوات قليلة بعض الثمار ..

مصر فى أقل من ثماني سنوات ليست وحدها من تتحدث عن نفسها، بل يتحدث عنها العالم فعلًا لا قولًا!

يتحدث عنها فعلًا بالمشهد الذى نراه فى مطارات مصرية عديدة بعد أن كنا نعانى فى شرح اختيارنا للعالم!

وفى المشهد الذى سيتوافد فيه قادة ورؤساء الكرة الأرضية على أبوابها، بعد أن كان بعضهم يعد العدة لخنقها!

الأغلبية الصامتة تدرك هذا ولا تتحدث إلا حين يكون للحديث والقرار قيمته على الأرض!

مصر لم تعد الدولة التى يذهب خمسة بالمائة من سكانها لكى يسودوا بعض بطاقات الاقتراع!

لكنها أصبحت الدولة التى تقرر غالبيتها لنفسها وتعبر عن قرارها بأشكال شتى..

لذلك فيوم الحادى عشر من الشهر القادم ستعلن تلك الغالبية قرارها بأنها سوف تمارس حياتها بشكل طبيعى، سوف يتوجه التلاميذ إلى مدارسهم، والموظفون إلى أعمالهم، وسوف تضج صفحاتهم الشخصية بالسخرية من عملاء الخارج الذين وضعوا أنفسهم فى أسوأ موضع يمكن أن يجد إنسان نفسه فيه...مواجهة ملايين المصريين المعروفين بضمان الانتصار فى أى معركة تجريسية!

(٦)

إن الرئيس الذى يقولون له إن هناك من يحاول تهييج الناس بعد أيام ضدك وضد حكمك، وإن هؤلاء سوف يحاولون استغلال الأزمة الاقتصادية العالمية فى تخطيطهم، ثم يقوم هذا الرئيس بالاستمرار فى خطته للإصلاح الاقتصادى لا يمكن أن يكون رئيسًا عاديًا يبحث عن تأمين شعبيته أو تأمين جلوسه على مقعد الرئاسة!

الرئيس الذى يفعل ذلك هو واحد من ثلاثة، إما أن يكون ديكتاتورًا دمويًا يحكم شعبه بالحديد والنار ولا يعبأ بردود أفعالهم، وكلنا يعلم - حتى من يعاررضون الرئيس السيسى ويتطاولون عليه- أنه أبعد ما يكون عن هذا الوصف...

وإما أنه رئيس لا يتمتع بالحد الأدنى من الذكاء السياسى اللازم للحكم، وخبرتنا مع الرئيس السيسى منذ  أن تولى منصب وزير الدفاع تثبت أنه حاد الذكاء...

أما الاختيار الثالث وهو الحقيقة المؤكدة فيمكن تلخيصه فى كلمتين، الأولى منهما الثقة..نحن أمام رئيس يثق فى نفسه وفيما قام به فى السنوات الماضية ويثق فى رضا ضميره التام...

أما الكلمة الثانية، فهى (الأغلبية التى لم تعد صامتة)...إننا أمام رئيس ينتمى إلى طبقة مصر المتوسطة التى مثلت فى العصر الحديث صمام أمان مصر المجتمعى، يدرك تفاصيل مصر جيدًا ومنغمس فيها حتى النخاع..يثق تمامًا أن ما حمله على عاتقه فى سنوات مهمته قد وصل تمامًا إلى نجوع مصر وأزقتها وقراها وطبقتها العاملة وفئاتها التى دأبت على المعاناة منفردة..

لذلك سيكون يوم الحادى عشر من نوفمبر هو الموعد القادم لصفعة (الغالبية التى لم تعد صامتة) على وجوه الذين لا يزالون يصرون على اختبار ولائها الوطنى وإهانة ذكائها!

(٧)

لأن أول ما استوعبته تلك الغالبية بعد أيام من قيامها بمنح الشرعية لجميع قطعان وجماعات المتآمرين والمتدثرين بعباءات الدفاع عنها، أنها لم تكن سوى مطية امتطاها أصحاب المصالح من الداخل والأعداء الصريحون من الخارج!

الدرس الأول قد تجرعته تلك الأغلبية على الهواء مباشرة حين رأت الذين ظلوا سنوات يقدمون أنفسهم لها بأنهم مدافعون عن حريتها وحقوقها، وهم يضعون أيديهم فى أيدى عصابات دموية للسيطرة على مصر ويقدمون لها أصحاب تلك الأيادى الملطخة بالدماء كتيار سياسى مشروع!

شاهدت الأغلبية هؤلاء فى ميدان التحرير يقودون مفاوضات إسقاط الدولة المصرية فى معسكر ميليشيات الإسلام السياسى وعملاء الخارج!

فأصبح الإصرار على امتطائها يستفزها بشدة ويستثير لديها كل خلايا وأعصاب الولاء الوطنى...

أما الدرس الثانى الذى استوعبته فهو أن هؤلاء الذين يدعونها للإثم الوطنى ربما يعلمون رد فعلها وأنهم لا بتوقعون منها كثيرًا، لكنهم يعملون حسب خطة محددة....

يحددون أيامًا بعينها ويعلنون عن عزمهم على التخريب والفوضى حتى تتأهب أجهزة الدولة لحماية الأرواح والمنشآت... ثم لا شىء ...وهكذا دواليك ومع كل مرة تنفق الدولة أموالًا وتتوتر أعصابها وهو ما يعرف باستنزاف الدول!

وثالث الدروس أنه كلما أنجزت مصر شيئًا على الأرض أو بدا أن موردًا من الموارد سوف يزدهر، تشتد حملة استهداف تحريض الغالبية حتى تشترك فى المشهد المنشود وتعود بمصر إلى المربع صفر!

كل تلك الدروس والمشاهد والخبرات العملية تقود إلى حقيقة واحدة..إن أى تاريخ يحدده عملاء الخارج ومن والاهم بالداخل، سيتحول إلى مناسبة للغالبية للتعبير عن وجودها ونضجها وخطوها خطوات جديدة نحو مرحلة النضج الكبرى التى نأملها والتى ستصبح معها أى محاولة لدعوتها لتخريب بلادها أقرب للبلاهة السياسية!