رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مدرسة المهرجانات للعلوم والتكنولوجيا

يبدو أن البعض استسلم تمامًا لفكرة أن «السلم اللى ما تقدرش تطلعه اقلعه» وليس مهمًا بعدها ماذا يحدث.. حتى ولو انهار البناء بالكامل وليس السلم فقط فوق رءوس العباد.

ما جرى الأسبوع الماضى فى حجرات نقابة المهن الموسيقية.. وفى البرلمان أيضًا بينهما صلة نسب ومصاهرة.. يجمعهما منطق واحد رغم بُعد المسافات، وأنه لا يبدو ثمة علاقة ما بين شامى المهرجانات ومغربى الدروس الخصوصية.

استوعبت تمامًا ماذا فعل النقيب الجديد مصطفى كامل وهو يعلق على تأسيس شعبة جديدة بالنقابة ينضم إليها من سميناهم «بتوع المهرجانات» لكنه قرر تغيير الاسم.. بل إنه طلب منهم ألا يسمع منهم وألا يقرأ فى أغنياتهم شيئًا اسمه المهرجانات.

اعترف مصطفى كامل بوجود مشكلة.. عبّر عنها قبلها بأيام بأنه لا يسمح بدخول ذلك الشىء إلى «الفيلا» التى يسكنها وأن بناته يسمعن هذا «الشىء» الذى اعتبره ضد «الأخلاق».. قرر كامل أولًا الاعتراف بوجود مشكلة وأن عليه مواجهتها ولكن ليس على طريقة سلفه هانى شاكر، قرر أن يستفيد منها أو بالأحرى الاستفادة مما تجلبه من «أموال» لتعظيم موارد النقابة والصرف على المعاشات وغيرها.. وتشغيل العاطلين من العازفين بأن فرض على أى ««مؤدى» من هؤلاء، بعد أن يبصم على تعهد، بأن يستخدم فى حفلاته ١٢ عضوًا عاملًا من الموسيقيين.. وأن يحصل أى منهم على تصريح قبل سفره للخارج.

أعجبنى تفكير مصطفى كامل.. فالمنع المطلق لن يجدى.. ثم إنه ضد الطبيعة والمنطق.. مصطفى رأى أن العيب ليس فى نوع الموسيقى وأن المشكلة فيما يغنى هؤلاء البشر من كلمات فقرر أن يلزم هؤلاء بالذهاب إلى الرقابة على المصنفات الفنية للحصول على ترخيص بما سيغنونه من كلمات، وهدد بعدم تجديد التراخيص التى حدد لها ثلاثة أشهر فقط- تصاريح ربع سنوية- فى حال غنائهم كلمات خارجة.. وهنا يمكن للرجل أن يحارب ما سيرفعونه على قنوات اليوتيوب، ولكن كيف سيمنع ذلك فى الحفلات؟.. هل سيقوم بإنشاء شرطة الكلمات الخارجة على التقاليد؟!

على كل حال.. اعترف كامل بمرارة الأمر الواقع قبل أن يعترف بوجود المهرجانات حتى ولو رأى أنه سيمنع اسمها وتغيير صفة الشعبية إلى «مؤدى أصوات».. وكأن الآخرين «لا صوت لهم».. لكنه فى الوقت نفسه، وفى قرار صحيح، فرّق بينهم وبين من يجيد الغناء منهم بأن قرر أن ينضوى هؤلاء تحت اسم «المطرب الشعبى» ورغم ما فى الأمر من تكريس للجهل بقيمة الغناء الشعبى لكنه قرار محسوب فى كل الأحوال ومهم.. كسب مصطفى أن جمع كل هؤلاء تحت راية نقابته وتحت مظلتها، وكسبوا هم شرعية لم يحلموا بها فى يوم من الأيام.

أعرف أن الظاهرة ستختفى وأن هؤلاء أيضًا سيختفون وستحل محلهم ظواهر أخرى ربما أشد فجاجة.. لكن حتى يحدث ذلك فالنقابة مستفيدة قطعًا.. ومصطفى كامل أيضًا.. وهؤلاء الذين كنا وما زلنا نسميهم «مغنو المهرجانات».. فى الوقت نفسه خرج علينا معالى وزير التربية والتعليم بما سماه «مقترحات لتقنين سناتر الدروس الخصوصية».. وتعيين شركة أو ما شابه لمتابعتها ومتابعة تراخيصها لتصبح أمرًا واقعًا تحت عين الوزارة يحصل بمقتضاها على جزء من «الغنيمة» التى يجنيها أصحاب السناتر والمدرسون الخصوصيون من جيب المواطن الغلبان.. ولا عزاء للتلاميذ، ولا المدرسة، ولا المدرس الذى يرفض المشاركة فى «هيصة الدروس الخصوصية».

الوزير رضا حجازى الذى كان شريكًا أساسيًا وفاعلًا فى مشروع طارق شوقى لمحاربة الدروس الخصوصية يقر بفشل المشروع فى ذلك، والاعتراف بأريحية شديدة بانتصار أصحاب السناتر وأباطرة سوق الدروس الخصوصية.

الاعتراف بالأمر الواقع أمر جيد قطعًا بدلًا من دفن الرءوس فى الرمال.. لكن تقنين هذه العملية الفاسدة يعنى أننا نوافق على تقنين بيع وتداول المخدرات، فى مقابل الحصول على نسبة من «الأرباح»، ويعنى ضمنيًا نهاية عصر المدرسة تمامًا.. فلمن يذهب الطلاب إذن؟.. إذا كانت الدروس الخصوصية فعلًا لا تجرّمها الوزارة، بل ترحب بها وتسعى للاستفادة منها.

هو الاستسلام الفج والكامل والاعتراف بالعجز.. وشتان بين ظاهرتى الدروس الخصوصية والمهرجانات، كلاهما ضار بصحة وعقل الإنسان المصرى.. لكن قرار مصطفى كامل فيه تحجيم للظاهرة ومحاصرة لها، فالذين يغنون هذا النوع من البذاءة لن يحصلوا على موافقة الرقابة أبدًا.. وبالطبع لن تليق عليهم أغنيات رصينة.. أو كلمات مؤدبة من الأصل.. مما يقلل من انتشار هذا النوع فى الفضاء الإلكترونى، وهى خطوة معقولة فى كل الأحوال.. أما السماح بالسناتر.. فهو إنهاء لوجود المدارس التى هى ليست مجرد مكان لتحصيل العلوم والتكنولوجيا فقط، ولكنها مكان للتربية أيضًا.. ولخلق حياة كاملة ما بين أهل المهنة والتلاميذ.. هذه الحياة ستنتهى تمامًا مع اللجوء إلى الوجبات السريعة.. وإنهاء دور المعلم فى حياة أبنائنا أيضًا..

ورغم أن ما قرره السيد الوزير لا يزال محل دراسة.. فإن مجرد إعلانه من أكبر رأس فى الوزارة يكشف عن عوار شديد.. ويكشف أيضًا عن تراجع عما تم الإعلان عنه فى عملية تطوير التعليم التى تعنى باختصار أن ثلاثة أضلاع مهمة من عماد هذا التطوير سقطت وإلى الأبد.. المدرس.. والمدرسة.. والتلميذ.. فماذا يعنى التطوير بعدها؟ ماذا سيتبقى من المشروع سوى المناهج؟

سياسة الاعتراف بالأمر الواقع من أجل الكشف عنه والاعتراف به للبحث عن حلول وعن دواء لمعالجته شىء.. وما يدرسه د. رضا حجازى شىء آخر.. ذلك العجز الكامل فى المواجهة يعنى نزيفًا جديدًا فى منظومة القيم بكاملها.. فالأخلاق التى سمح مصطفى كامل باسمها أن يدخل هؤلاء إلى بيت عبدالوهاب وأم كلثوم ليجلس حمو بيكا على نفس مقعد عبدالحليم فى مقابل حفنة من الجنيهات هى نفسها الأخلاق التى لن تجد من «يعلمها» بعد قرار إنشاء السناتر برخصة.

الطريف فى الأمر وكعادة المصريين وبمنطق «إن خرب بيت أبوك اجرى خُد منه قالب».. وجدت العشرات ممن أعرفهم يفكرون كيف يمكنهم الحصول على تراخيص هذه السناتر، بعضهم يملك شققًا يؤجرها قرر تحويلها إلى سناتر.. ومن لم يستطع البناء فى الأماكن العشوائية بعد صدور قانون المصالحات فى مخالفات البناء قرر أن يستعد هو الآخر ويبحث كيف يمكن بناء هنجر فى قطعة الأرض التى يمتلكها ولا يستطيع بناءها.. سيحوّل الأرض إلى هنجر.. والهنجر إلى سنتر كبير للدروس الخصوصية.. و«برخصة».. والأكثر طرافة أن بعضهم، وكأن الأمر أصبح واقعًا، راح يسأل عن تفاصيل عملية التسويق عبر السوشيال ميديا، والبحث عن فريق لدعم مشروعه القادم.. وتسويقه.. وراح يفتش عن أسماء المدرسين المعروفين الجاذبين للزبائن.

نعم.. الجميع يتعامل مع عقولنا وأرواحنا وعقول وأرواح أبنائنا باعتبارهم «شوية زباين».. الصديق مصطفى كامل.. قرر الاستفادة بأقصى ما يستطيع من «المهرجانات التى يرفضها» ومن صانعيها.. هم ليسوا الزباين لكنهم البضاعة التى يقر كامل بوجودها وسيعرضها فى المحلات بعد أن تدفع.. وكله من جيب الزبون، سواء الذى سيستخدم هؤلاء الخارجين على الذوق العام فى فرح أو عبر السوشيال.. ومثلهم بالمثل.. سيدفع الزباين الذين هم نحن للمدرسين «الخارجين على مدارسهم ومنظومتها» وللسناتر التى ستدفع فى مقابل الحصول على الرخصة.

لا أعتقد أن أمر هذه السناتر سيمر.. لا أعتقد أن مجلس النواب سيمنح الوزير موافقة على هذه السياسات، وأعتقد أن الوزير وخبراء الوزارة سيراجعون فكرتهم.. وأعتقد أيضًا أن مطربى المهرجانات سيخرقون «اللوائح» التى بصموا عليها فى حضور النقيب كامل.. لتعود المواجهة من جديد.. مواجهة الدروس الخصوصية وسناترها.. والمهرجانات ومن يرقصون لها وعليها.. أو قل هذا ما أتمناه، وإلا فلا سلم تطلع عليه، ولا حوائط تسند عليها لو جرى ما يخططون له جهارًا نهارًا.. وليس فى الغرف المغلقة كما كنا نقول فى وقت سابق.