رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أسئلة المصريين الدينية.. والأقفاص العقلية!

(1)

لم يكن بما قرأته على إحدى الصفحات أى خطأ، فالسؤال حقيقى: هل يجوز إخراج وتوزيع حلوى المولد النبوى على الناس؟!

منذ عدة سنوات وعلى متن أحد الفنادق العائمة فاجأنى طبيب شاب ممن تتم الاستعانة بهم أثناء بعض الرحلات بإجابته عن سؤالى: حين توجد نظرية طبية حديثة هل ستقوم أولًا بسؤال رجل دين أم ستطبقها مباشرة؟ جاءت إجابته قطعية: طبعا سوف أسأل رجل دين أولًا!!

منذ أيام كتب صديق على صفحته متساءلا عن صحة المعلومات الواردة بإحدى الصفحات.. تقول الصفحة إن كثيرا من المسلّمات الدينية التى نشأنا عليها، مثل قصة الحمامات على غار حراء، غير صحيحة.. الأهم أن الصديق قال جملة هامة.. قال: «حتى لو كانت تلك المعلومات صحيحة فأنا لن أفقد الإيمان بها!».

(2)

فى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى نجحت الموجة التى اجتاحت مصر لنشر الفكر الدينى المتطرف فى أهم أهدافها، وهو إدخال العقل الجمعى المصرى فيما يشبه أقفاصًا عقلية يمسك بزمامها رجال الدين!

ثم كرس الإعلام المصرى- ممثلا فى الإذاعة والتليفزيون- تلك الحقيقة عبر عشرات البرامج الدينية التى يقوم فيها المصريون بالتواصل مع عالم دين تتم استضافته لتلقى الأسئلة والإجابة عنها..

سيلٌ من آلاف الأسئلة التى كان المصريون يلقون بها عبر الأثير تشمل جميع تفاصيل الحياة، بما فيها العلاقات الحميمية بين الرجل وزوجته، والعلاقات الاجتماعية، وأسئلة تخص المعاملات الاقتصادية، وأسئلة عن علاقات المصريين المسلمين بمواطنيهم المسيحيين، وهل يجوز إظهار مودتهم لهم فى مناسباتهم الدينية والخاصة، وأسئلة أخرى تخص مسائل علمية بحتة، وأخيرا أسئلة تخص الشعائر الدينية ربما تأتى فى ذيل اهتمامات المصريين. 

(3)

انطلق رجال الدين عبر عقود ثلاثة يجيبون عن جميع تلك الأسئلة، مما غرس فى عقول المصريين بعض الأفكار التى غدت كأنها مسلّمات لا تقبل الشك..

تأتى على رأس تلك الأفكار الاعتقاد أولًا بأن رجل الدين له الحق فى التداخل فى جميع تفاصيل حياة المسلمين، ثم ثانيا الاعتقاد بأن رجل الدين يقدر على تقديم تلك الإجابات فى جميع المجالات!

فخرج رجال الدين عن موضعهم المفترض من أن وظيفتهم إقامة الشعائر والرد- عبر قنوات رسمية- على أسئلة دينية تعبدية شعائرية!

وانزوت جانبا الحقائق، وأولاها أن المسلمين الأوائل لم يكن لديهم وظيفة رجل دين، وإنما علماء يذهب إليهم من تعن له مسألة دينية بحتة! وأن كلمة «من أدخل فى أمرنا هذا ما ليس منه» المنسوبة للنبى (ص) إنما المقصود بكلمة «أمر» هنا شعائر الدين!

(4)

ترتب على ذلك بعض المشاهد المحزنة، والتى أثرت سلبيا على الدولة المصرية تأثيرا سلبيا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. فعلى سبيل المثال أدى تكريس ذلك الاعتقاد إلى اتخاذ المصريين موقفا سلبيا تجاه معاملات البنوك وإلقائهم بمدخراتهم بين أيدى نصابى شركات توظيف الأموال!

وفى نفس السياق الاقتصادى قاد ذلك الاعتقاد مصر إلى قنبلة الانفجار السكانى إيمانا من المصريين بصواب ما أجابهم به بعض رجال الدين من تحريم أى تدخل طبى فى مسألة الإنجاب!

واجتماعيا قاد إلى قيام بعض العامة بإثارة مشاكل تخص دور العبادة المسيحية استنادا إلى رؤية بعض رجال الدين دون الالتفات إلى الاحتكام إلى القانون المصرى القائم!

وأدى إلى نشوء حواجز اجتماعية بين مواطنى الدولة الواحدة الذين يتشاركون فى الإرث وفى السمات والسلوك والعادات المصرية، حتى إن مجرد رد تحية السلام كان يخضع لرؤية رجال الدين!

وأدى إلى تحريم احتفال المصريين ببعض المناسبات الاجتماعية كشم النسيم وغيرها، وأحدهم أقنع الأطفال فى أحد الكتاتيب منذ سنوات بأن ارتداء الأولاد اللون الأحمر حرام!

أما سياسيا فقد قاد ذلك الاعتقاد إلى الكارثة التى ألقى فيها ملايين المصريين ببلادهم إلى عباءة جماعة إرهابية عام 2012م!

(5)

كانت حجة رجال الدين- وسار خلفهم فى ذلك العامة- فى حبس عقول المصريين داخل تلك الأقفاص أن ديانة الإسلام تختلف عن غيرها فى أنها أتت لتنظم حياة المسلم وتسيرها فى جميع تفاصيلها طبقا لنظام (إسلامى) يميزه عمن سواه من أتباع أى ديانة أخرى!

استنادا إلى هذه الحجة الفاسدة، والاستدلال العقيم، اختطف رجال الدين- فى العقود الثلاثة التى سبقت مشاهد فوضى 25 يناير 2011م- العقول المصرية واقتطعوا لأنفسهم مساحات نفوذ تأثيرية على الجماهير استنزفت الطاقة المصرية الجمعية فى البناء والنهوض!

ويتضح فساد هذه الحجة من بعض الحقائق التى تخص الإسلام النظرى والعملى الذى جسده النبى (ص). 

فنظريا آيات القرآن الكريم تتعامل فى معظمها مع قضايا الإيمان القلبى وتؤجل حساب الأفراد إلى يوم القيامة، وتحث على الإيمان بالله والتحلى بمجموعة آداب سلوكية عامة موجهة فى غالبها إلى صفات الرحمة والتسامح.

وعمليا، فسنة النبى (ص) العملية المتواترة تؤكد أنه لم يتدخل فى تفاصيل الحياة وتركها للمسلمين يمارسون فيها ما اعتادوا عليه ما لم يتعارض عقائديا مع الإسلام.

وعمليا أيضا ثبت أن جميع آيات القتال والحث عليه إنما جاءت فى حالة عارضة هى الحرب.

وحديثا فكل نظم العسكرية تؤكد ما جاء به القرآن فى تلك الحالة باستثناء تغير وصف العداء القائم حاليا على قيام الدول على أساس الأرض لا على أساس المعتقد الدينى!

والاستدلال الفاسد الذى اختطف بمقتضاه رجال الدين تلك المساحة من التحكم فى العقول المصرية، هو أن صلاة المسلم ونسكه وحياته ومماته يجب أن تكون لله رب العالمين حسب نص القرآن الكريم..

بمقتضى هذا المعنى افترض رجال الدين أن لهم حقا فى توجيه المسلم فى كافة تفاصيل حياته.. رغم أن السُنة النبوية أكدت أن المقصود هو أن الله سوف يأجر المسلم فى أى عمل يقوم به من صلاة ونسك وإنفاق على أهل بيته وزواجه.. فكل فعل يقوم به المسلم إن قام بنية أنه يفعل ذلك ابتغاء الجزاء الحسن فسوف يأجره الله عليه بخلاف ما يحصل عليه فى الدنيا!

(6)

إن بقاء العقول داخل أقفاص لعقود طويلة يصيبها بالكسل وإيثار الاتكاء على الآخرين ممن يمسكون بمزالج تلك الأقفاص لقيادتهم إلى الجنة، ويأنفون من بذل أى جهد عقلى حقيقى للخروج الآمن من تلك الأقفاص!

هناك خوف نفسى يصاحب فكرة العزم على الخروج من تلك الأقفاص، لأن هذا الخروج معناه تنشيط العقول وإثقالها بكثير من الجهد الذى سوف يلزمها القيام به بعد الخروج!

بعد ما مر بالمصريين من أحداث سياسية جسيمة صاحبها رؤية قيادية لاستنهاض كامل طاقة المصريين، أصبح المصريون فى مفترق طرق عقلية. 

فهم يعيشون الآن مرحلة «الرجفة العقلية» المنطقية التى تصاحب اكتشاف بعض الحقائق التى تؤكد تعرضهم لخديعة!

 يصحب ذلك صدمة لا يمكن اجتيازها للجميع بنفس الطاقة ونفس القدر حسب مخزون كل فرد من المعلومات ومن الجرأة العقلية والاستعداد للنظر فى المرآة!

يصاحب ذلك عدم استسلام أصحاب النفوذ العقلى ومُلاك مزالج الأقفاص. فنحن الآن فى مرحلة تململهم من فكرة مواجهة أى يقظة عقلية مصرية تهدد عروشهم الروحية ونفوذهم الجماهيرى!

بعضهم آثر السلامة وانزوى جانبا، بينما البعض الآخر قرر تغيير المزالج بأخرى أقل حدة وغلظة على أمل أن تكون تلك الفترة عارضة يعودون بعدها لسابق عهدهم!

(7)

إننى أعتقد بشكل شخصى أن المصريين سيكملون عملية كسر الأقفاص العقلية، ولن ترضى الأجيال القادمة بالعودة مجددا لها. لكن ذلك سيستغرق بعض الوقت، كما أنه سيتم بمصاحبة بعض المظاهر، سلبية وإيجابية..

فالبعض لن يحتمل الصدمة وستنقطع فى عقله تلك الشعرة التى تفرق بين الدين وبين ما فعله رجال الدين.. وهذا البعض سيتخذ إلى حين موقفا عدائيا من كل ما يتعلق بالدين حتى تتضح لديه الرؤية فيعود إلى جيناته الأصيلة!

والبعض الآخر لن تكون لديه تلك الجرأة على الإطلاق وسيعمل بكل قوته على التشبث بأقفاصه وسيعتبرها طوق النجاة.. وهذا البعض سيكون أكثر حدة فى الدفاع عن ملاك المزالج منهم أنفسهم! سيكون دفاعه فى باطنه عن نجاته حسبما يعتقد لا عن نفوذهم!

والبعض الأخير، وأعتقد أنهم الغالبية فى المجتمع المصرى، وهم القوة المجتمعية الحامية للاستقرار النفسى المجتمعى، وهؤلاء الذين يتمتعون باعتدال عقلى وسوف يقومون ذاتيا بعملية فرز عقلية هادئة.. والأمل الحقيقى لمصر سيكون فى تنشيط تلك الكتل الجماهيرية!