رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عندما تضحك الرمال

منذ ما يزيد على ربع قرن رحت أفتش عن «مبيدات السرطان» بطول سبع ساعات حتى وصلت إلى مصب نهر النيل فى البرلس.. كانت مجرد مغامرة صحفية قررت إنجازها لصحيفة «صوت الأمة» التى كنت أعمل بها فى ذلك الوقت.. كان كل ما لدىّ من معلومات يدور حول مخلفات المصانع التى يتم صرفها فى «الرياح» وبعيدًا عن الأوراق والمحاضر والمستندات التى حصلنا عليها خلال الرحلة.. قادتنى قدماى إلى ما يشبه الحلم.. 

كان مرافقى ودليلى أحد أبناء محافظة كفرالشيخ له قريب هو أحد علماء البيئة الكبار.. راح رفيقى يحدثنى عن أحلام قريبه بأن تتطهر هذه الرقعة من أرض مصر من هذه المخلفات التى دمرت صحة الملايين.. كان عجيبًا أن أشاهد مياه الترع وقد تحولت إلى مواد سوداء تتم زراعة الأرض بها بطول الطريق.. المياه التى تعودناها بيضاء متدفقة تخرج من أفواه المكن فى طريقها إلى الزرع صارت «طينة سوداء عكرة» يشرب منها البشر والزرع والحيوان..

وسط ذلك الضباب وسيرة المرض والتعاسة التى يعانيها مرضى الفشل الكلوى نتيجة فساد الزرع ومياه الشرب وقت وجود يوسف والى على رأس وزارة الزراعة وفى ظل اتهامات أكدتها المحاكم لرجاله باستيراد المبيدات الفاسدة.. وسط ذلك العبث.. وجدت من يحدثنى عن كفرالشيخ حديث «الحلم».. قال مضيفنا إن هذه الرمال البديعة التى تحاوطنا فى بلطيم وغيرها.. هى كنوز لا يعرف المصريون قيمتها.. شرح الرجل أن البعض يحصل على «متر الرملة» من هنا ومن مواقع أخرى فى سيناء ودمياط بما يساوى دولارًا واحدًا.. وبعد تصديرها إلى الخارج تعود إلى مصر من جديد بعد أن تتم معالجتها لنشتريها بما يوازى ثلاثمائة دولار للمتر الواحد.. كان الأمر غريبًا بالنسبة لى وسألت لماذا نقوم بتصديرها بهذا الثمن البخس، وما هى المعالجة؟.. وشرح لنا الرجل ببساطة.. أنها عملية تخليصها من الشوائب.. وأكد بفرح أن نسبة النقاء فى الرمال المصرية هى الأعلى فى العالم ولا تحتاج لعمل صعب شارحًا ليفهمنا بأنها أقرب إلى عملية «دلق جردل مياه على الرمل».. لنعزل المواد المطلوبة.. وأضاف أن هذه المواد المستخلصة من الرمال سوداء وبيضاء يتم استخدامها فى عشرات الصناعات بداية من رقائق السيليكون التى يتم استخدامها فى شاشات التليفزيون والموبايل حتى الصناعات النووية.

كان الحديث مبهرًا.. اصطحبنا الرجل مع الزميل علاء القصاص الذى أصبح مصورًا الآن لنقوم بتصوير «البرزخ» نقطة التقاء مياه المتوسط بنهر النيل.. كان المنظر بديعًا.. لكن حديث الشاب الكفراوى الحالم كان أكثر إبداعًا.. قال إن هذه الرمال نتيجة ثورات بركانية فى مقدمة النهر فى إفريقيا وجاءت من آخر الدنيا وترسبت فى أعالى مصر.. لتسكن بجوار المصب.. ذكر الرجل وقتها أرقامًا لم أستوعبها مئات الكيلومترات من «الذهب الأسود توجد فى رمال إدكو ورفح ورشيد وبلطيم.. ومرت سنوات قبل أن يفاجئ الرئيس عبدالفتاح السيسى مطلع ولايته بقرار جمهورى بمنع تصدير الرمال السوداء والبيضاء.. وقتها لم ننتبه إلى أهمية القرار.. ومنذ أربع سنوات بدأت مصر فى تدشين مصنعين فى كفرالشيخ، الأول شرق البرلس بقرية الشهابية على مساحة ٨٠ فدانًا باستثمارات تصل إلى ٢٤ مليون دولار.. ومصنع آخر فى بلطيم تم تنفيذه على مساحة ٣٥ فدانًا باستثمارات مشتركة بين محافظة كفرالشيخ وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية وهيئة المواد النووية وبنك الاستثمار القومى باستثمارات تتعدى المليار جنيه.

الحديث عن استغلال ثرواتنا المعدنية وبعضها لا يزال مجهولًا يجرنا مجددًا إلى توجه مصر إلى التصنيع بعد سنوات طويلة من إهمال هذا الملف.. كفرالشيخ هذه المدينة البسيطة التى يعمل معظم أهلها فى الزراعة والصيد ها هى تجد لها متسعًا مختلفًا.. باب رزق جديد، حيث توفر هذه المصانع الجديدة ما يزيد على خمسة آلاف فرصة عمل مباشرة.. ومن المنتظر، حسب بعض الدراسات الموثوقة، أن عملية استخراج المعادن من الرمال السوداء تستدعى صناعات أخرى تكميلية.. فبعض هذه المعادن يستخدم فى صناعة السيارات على سبيل المثال.. وبعض الدول قام اقتصادها بالكامل على تصنيع منتج واحد من هذه العمليات، كما هو الحال مع «الرقائق الإلكترونية» التى يتم استخراجها من «الرمال» أيضًا.

لا أحب الأرقام.. ولا ذلك الكلام المزعج عن حجم الاستثمارات والعائد المنتظر.. لكن ما أعرفه أنه لا مستقبل لهذه البلاد التى أهملت لسنوات طويلة سوى بمثل هذه المصانع.. ها هى البدلات الزرق تعود مجددًا لتمشى فى شوارعنا.. معظمنا لم يزر هذه القرى.. وربما لا يعرف شيئًا عن حياة أهلها.. ربما لا يعرف ماذا يعنى غياب رب الأسرة عن داره بالشهور فى عرض البحر طلبًا للرزق من عمليات الصيد.. بعضهم لا يعرف إن كان سيعود من الأصل أم أن البحر سيغدر به.. لم يكن هناك أى بديل أمام هؤلاء الرجال الذين لم يتعلموا سوى الصيد، سواء فى البحر أو بحيرة البرلس وما يجاورها من بحيرات صغيرة.. الآن.. أصبح أمام أبناء هؤلاء الرجال فرصة مختلفة لتعلم صناعة مختلفة.. الآن يتحقق حلم ابن كفرالشيخ العالم وأستاذ النبات د. محمد القصاص الذى توفى منذ عشر سنوات متأثرًا بالسرطان.. الآن يتحقق حلمه وحلم الآلاف من علماء هذه البلاد فى أن يدًا مصرية تقترب من كنوز هذه المساحة المهولة وتستخرجها ليستفيد بها العالم كله، وفى المقدمة أبناء مصر.. 

أذكر أن أحد المحاورين وقتها كان يحدثنا عن استخدامات غير مسبوقة لمنتجات الرمال السوداء فى مجال العلوم الطبية.. ربما يبدى هؤلاء فرحتهم الآن.

المصريون لن يتوقفوا عن الحلم.. والعمل ومصنع كفرالشيخ ليس نهاية المطاف حتمًا.. لكنه مجرد بداية.. هل قال لك أحدهم إن «أكواب الشاى المصنوعة من الزجاج الردىء بعضها كان يتم استيراده من الخارج.. كل ما يتم استخراجه من الرمل كنا نستورده من الخارج.. هذه المصانع لا توفر لنا فقط فرصة عمل يحتاجها أهلنا.. ولا فرصة لأهل العلم لمداواة مرضانا.. ولا فرصة لتوفير العملة الصعبة التى نحتاجها لاستيراد كل شىء فعليًا.. لكنها فرصة أيضًا لتصدير الأحلام.. تصدير الأمل فى أيام قادمة أفضل.