رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أرض البلّورات.. «الدستور» داخل مصانع الرمال السوداء فى كفرالشيخ

أرض البلّورات
أرض البلّورات

عاش المصريون عقودًا من الفرص الضائعة يحلمون بإرادة وقدرة حقيقية لاستغلالها والاستفادة من خيراتها، على رأس تلك الفرص كانت "الرمال السوداء" التى طالما ثارت حناجر علماء الجيولوجيا والتعدين بالحديث عن أهميتها واستراتيجيتها.

تلك المشاهد وأكثر كانت تدور فى رأسي على مدار 4 ساعات فى الطريق من العاصمة القاهرة إلى أطراف مدينة البرلس بكفرالشيخ، حيث أرض الكنز الثمين والحلم الذي طال انتظاره بتأسيس "الشركة المصرية للرمال السوداء" المسئولة عن كل شىء يخص تلك الرمال.

وعلى مشارف مجمع مبانٍ ضخم فى أطراف البرلس حيث مقر الشركة المصرية للرمال السوداء، توهجت الشمس ولمعت تحتها حبات الرمال بلونها الأسود القاتم، وكأن مساء السماء قد انعكس بظلاله على تلك المنطقة فى وضح النهار.

هنا "مجمع مصانع الشركة المصرية للرمال السوداء" فى البرلس التى تمتلك 11 موقعًا آخر للاستكشاف والتنقيب عن تلك الرمال التي تحتوي على 6 معادن اقتصادية تدخل في العديد من الصناعات الاستراتيجية.

كانت البرلس كالجنة الحزينة المحرّم دخولها، كباقي المشروعات الاستراتيجية التي حلم بها المصريون منذ  زمن، لأنها تحتاج للتمويل والعلم، وفوق كل ذلك القرار والعزيمة التى لا تلين.

ورغم السكون الذي ران على المكان خلال أعوام كثيرة مضت، إلا من أصوات حفيف تلك الرمال تلهو بها رياح الشتاء والصيف، فإن زئير ماكينات المصانع الـ6 وأسطول سيارات وعمال المشروع والمهندسين جعلت منه خلية نحل ترتطم فيه أصوات البشر وأزيز الماكينات معًا لتخرج لنا هذا الكنز فى شكله النهائي وتقتحم به مصر سوق الصناعات التعدينية لتحقيق الاكتفاء الذاتي من تلك المعادن محليًا وتصدير الفائض منها إلى جانب البحوث العلمية والدراسات فى هذا المجال.

"الدستور" تجول داخل مجمع مصانع الشركة، الذي يعد أهم مواقع الرمال السوداء بمدينة البرلس بكفرالشيخ، ورصدت جهود الدولة لاستغلالها وناقشت مسئولي الشركة المسئولة عن استغلال الرمال السوداء حول ما يحمله الخام من آمال وطموحات لدعم الاقتصاد القومي.

والرمال السوداء، لمَن لا يعرف، هى رمال شاطئية ثقيلة سوداء اللون- تترسب عند مصبات الأنهار وتحتوى على نسبة من المعادن الاقتصادية (إلمنيت- زيركون- جارنت- روتايل- ماجنتيت)، بالإضافة إلى المونازيت الذى يحتوى على المواد المشعة، وبالتالى فهى غير صديقة للبيئة، وتكونت من الترسيبات والتآكلات الصخرية.

كما تعد الأمواج من أهم العوامل المسببة للترسيبات المعدنية، وسببها الرئيسي هو تآكل الصخور الشاطئية. حيث تتحرك الترسيبات من فم النهر لتكوّن معادن رملية وصخرية علي الشواطئ، فإذا كانت التأثيرات الموجية شديدة تحركت الترسيبات بطول الشواطئ بدلًا من الانحسار فى الدلتا فقط.

كيف كانت البداية؟

يقول مسئول المشروع لـ"الدستور" إنه نظرًا للقيمة الاقتصادية للرمال السوداء وحرص الدولة على الحفاظ على ثرواتها التعدينية فقد قامت هيئة المواد النووية بإجراء دراسة استكشافية شاملة مناطق وجود الرمال السوداء على طول ساحلى البحرين المتوسط والأحمر، كما قامت شركة مينرال ميتنولوجى الأسترالية بإعداد دراسة جدوى بشأن استغلال وتعدين الرمال السوداء بمنطقة البرلس، وخلصت الدراسة إلى أن المشروع ذو جدوى اقتصادية عالية جاذبة للاستثمار.

يضيف مسئول المشروع أنه صدر قرار رئيس مجلس الوزراء فى سبتمبر 2014 بإنشاء الشركة المصرية للرمال السوداء كشركة مساهمة مصرية، بهدف استخلاص المعادن الاقتصادية من الرمال السوداء سواء من سطح الأرض أو من المياه وفصلها وتسويق منتجاتها محليًا وعالميًا، وليس ذلك فقط بل تعظيم القيمة المضافة لخامات المعادن المستخلصة من الرمال السوداء وتحويلها الى منتجات جاهزة للعمليات الصناعية المختلفة بدلًا من تسويقها كمواد خام، ما يسهم فى دفع عجلة الاقتصاد المصرى.

وبشأن أهم الاستخدامات للمعادن المستخلصة من الرمال السوداء، قال مديرو المشروع إن العنصر الأول هو "الإلمنيت" ويستخدم في إنتاج التيتانيوم الإسفنجي وفلز التيتانيوم وسبائكه إضافة إلى (الصواريخ والغواصات والطائرات)، وثاني أكسيد التيتانيوم (البويات، البلاستيك، الورق، الجلود)، والثاني هو معدن "الزيركون" الذي يستخدم في صناعة السيراميك، والأدوات الصحية والزجاج، وتبطين الأفران، وقلوب المفاعلات النووية، وصناعة الحراريات.

والثالث هو "الجارنت" ويستخدم فى صناعة أحجار التجليخ، وتلميع الأسطح المعدنية، وأوراق الصنفرة ، وفلاتر المياه. فيما كان العنصر الرابع هو "الماجنيتيت" ويدخل في صناعة الحديد الإسفنجى، وتغليف أنابيب البترول، والخرسانات الثقيلة.

أما العنصر الخامس المستخرج من الرمال السودا فهو "الروتايل" ويدخل في صناعة  فلز التيتانيوم، والأصباغ، والبويات، والورق والمواد الغذائية ، وأسياخ اللحام. والسادس هو "المونازنت" ويدخل في إنتاج العناصر الأرضية النادرة المستخدمة فى الصناعات عالية التقنية ومصدر ثانوى للحصول على المعادن المشعة (الثوريوم واليورانيوم).

إلى ذلك، تأسست الشركة المصرية للرمال السوداء كإحدى شركات جهاز مشروعات الخدمة الوطنية بتاريخ 15 فبراير 2016 برأسمال مُصدر قدره (500) مليون جنيه وتمت زيادته ليصبح 4 مليارات جنيه بنسب مشاركة 61% لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية، و15% لهيئة المواد النووية و12% لبنك الاستثمار القومي، و10% لمحافظة كفرالشيخ، و2% للشركة المصرية للثروة التعدينية.

وبدأت خطوات العمل الجاد بإنشاء الشركة المصرية الصينية للرمال السوداء بهدف سرعة تغطية معظم مناطق الرمال خاصة منطقة غليون بما يسمح بالحصول على أعلى عائد اقتصادى وعدم تعطيل خطة التنمية بالدولة (إسكان– زراعة– سياحة.. إلخ)، للحصول على تكنولوجيا منافسة للتكنولوجيا الأسترالية المعروف بكونها الأعلى فى العالم، وقد أسهم جهاز مشروعات الخدمة الوطنية مع الشركة المصرية للرمال السوداء في تأسيس الشركة المصرية الصينية للرمال السوداء بتاريخ 2018/7/18 برأسمال مصدر(24) مليون دولار وبنسب مشاركة جهاز مشروعات الخدمة الوطنية 83.5%، والشركة المصرية للرمال السوداء 12.5%، والشركة الصينية المصرية للتعدين وتصنيع المعادن 4%.

لا شىء دون بحث علمي

لم يكن هناك أى نجاح دون تخطيط وبحث علمي مستمر من الفكرة على الأوراق إلى التنفيذ النهائي والتصنيع، ولذلك صدق الرئيس عبدالفتاح السيسي على القرار رقم (8) لسنة 2019  بتاريخ 2019/2/20 وتم نشره بالجريدة الرسمية بالعدد رقم 7 ب بتاريخ 2019/3/20 بشأن اتفاقية الالتزام، الذى تنص المادة الثالثة منه على منح الشركة المصرية للرمال السوداء التزامًا مقصورًا عليها بالبحث عن واستكشاف وتعدين وتركيز المعادن الاقتصادية من ركاز الرمال السوداء واستغلالها في جميع ربوع جمهورية مصر العربية.

هنا البرلس

يشمل الشركة فى البرلس مصنعا الفصل والتركيز، حيث تم الانتهاء من تنفيذ الأعمال الإنشائية وتنسيق الموقع بنسبة 100%، وكذلك تم توريد وتركيب كل معدات مجمع مصانع الفصل والتركيز بنسبة 100%. وتبدأ رحلة العمل من الكراكة "تحيا مصر" وهي أول كراكة فى العالم صديقة للبيئة تعمل بالكهرباء، بدلًا من الديزل بطاقة إنتاج 2500 م مكعب فى الساعه وصنعت لمصر خصيصًا فى هولندا.

ثم مصنع التركيز، ويليها المرحلة الثالثة فى مصانع فصل المعادل من الرمال السوداء، ويتكون المجمع من 6 مصانع الأول مصنع الإلمنيت الرطب والجاف بطاقة 298000 طن/ عام، والثاني مصنع الروتيل بطاقة 11000 طن/ عام، والثالث مصنع الجارنت بطاقة 23000 طن/ عام، والرابع مصنع المونازيت بطاقة 145 طنا/ عام، والخامس مصنع الإعداد والتغذية وإنتاج الماجنتيت بطاقة قدرها 12000 طن/ عام، والسادس مصنع الزيركون الرطب والجاف بطاقة 25000 طن/ عام.

كل ذلك إلى جانب مبانٍ لوجستية كمبنى التعبئة والتخزين ومحطة تحلية المياه لصالح العملية الصناعية بطاقة 4200 م3/يوم.

ومن البرلس إلى موقع الشركة بمنطقة رشيد، حيث تم الانتهاء من جميع الأعمال الإنشائية للمرحة الأولى بنسبة 100%، كما تم توريد وتركيب جميع معدات المرحلة الأولى بنسبة 100%، وجارٍ أعمال الاختبارات والتشغيل التجريبي للمصنع، كما أنه يجرى الآن إنتاج ركاز المعادن الاقتصادية بواسطة 7 وحدات تركيز بالموقع، وتقدر الطاقة الإنتاجية بـ14 ألف طن/عام من ركاز المعادن الاقتصادية بنظام العمل بوردية واحدة.

إلى جانب رشيد والبرلس، إلى موقع الشركة منطقة دمياط حيث موقع استخلاص الركاز بدمياط، ويجري فيه الآن العمل بواسطة وحدتي استخلاص ركاز معادن اقتصادية بميناء دمياط بجوار أحواض التكديس، كما أن الطاقة الإنتاجية تقدر بـ(1200) طن/عام من ركاز المعادن الاقتصادية المختلفة بنظام العمل بوردية واحدة.

إضافة إلى ذلك، فإن موقع الشركة بمنطقة بحيرة المنزلة وهو موقع استخلاص الركاز ببحيرة المنزلة، حيث يجرى الآن العمل بواسطة 4 وحدات استخلاص ركاز معادن اقتصادية بالموقع والطاقة الإنتاجية تقدر بـ(2400) طن/عام من ركاز المعادن الاقتصادية بنظام العمل بوردية واحدة. 

بينما الموقف التنفيذى لمشروع استخلاص المعادن الاقتصادية للشركة المصرية الصينية للرمال السوداء حيث موقع التنجيم بغليون والذى تم تجهيز 4 وحدات استخلاص ركاز المعادن بموقع التنجيم ببركة غليون وجارٍ الإنتاج الفعلى لركاز المعادن ونقله إلى موقع مصنع الفصل بطاقة إنتاجية 18 ألف طن/عام من المعادن الاقتصادية بنظام العمل بوردية واحدة.

من جانبه، قال د. حامد ميرة، رئيس هيئة المواد النووية، رئيس اللجنة العلمية فى الشركة المصرية للرمال السوداء إن الهيئة أعدت دراسة جدوى كاملة تمت مراجعتها من كبرى الشركات العالمية العاملة فى المجال التعديني خاصة الرمال السوداء، موضحًا أن تحقيق هذا الحلم كان يحتاج لإرادة سياسية قوية، وكان قرار الرئيس السيسي تجسيدًا للعلاقة بين أجهزة الدولة وتطبيق الدراسات العلمية.

أضاف ميرا لـ"الدستور" أن جهاز مشروعات الخدمة الوطنية بالقوات المسلحة دفع المشروع للأمام بقوة، وبدعم أيضًا من وزارة الكهرباء والطاقة التى لم تبخل بأى شىء، واصفًا الأمر بأنه كان كنزًا مهدرًا، حيث كانت "حبات الرمال تلاطمها الأمواج دون أن تستفيد منها مصر.

إلى ذلك، لفت د. هشام النحاس، عضو اللجنة العلمية للشركة المصرية للرمال السوداء، إلى أن المشروع له جانب وبعد بيئي كبير كونه يخفض من تعرض السواحل لأضرار إشعاعية، مؤكدًا أنه يتميز أيضًا بانعدام تام لثانى أكسيد الكربون، إضافة إلى إنشاء نقاط اجتماعية حيث تم بناء بنية تحتية يستفيد منها كإسكان لأهالى المنطقة وتجسيدًا للمبادرة الرئاسية"حياة كريمة".

وبحسب مسئولي الشركة، فإن المشروع حصل على الكود الأسترالي، حيث أعطيت شهادات ضمان بأن كل المؤسسات العالمية سواء تمويلًا أو بحثية تعترف بهذا المشروع، لا سيما أن هناك فى هذا المجال فى العالم 5 أكواد من ضمنها الأسترالي، وأضحت الشركة من أوائل المشروعات التعدينينة التى كودت عالميًا، شملت 9 مجلدات الأول الدراسات الجيولوجية والدراسات الجيوتكنيكال، إلى الدراسة الماجية والتسويقية، وكذلك البيئية لدراسة الأثر البيئي فى المنطقة وتم الحصول على التصاريح والتراخيص البيئية من وزارة البيئة.

وأشاروا لـ"الدستور" إلى أن العالم حاليًا يشهد ندرة فى المعادن، وهذه الشركة ستغطى الاحتياج فى السوق المصرية ثم تصدر للخارج، موضحين أن هناك نسبا لدينا عالية فى الرمال السوداء بمصر من 3.7 إلى 4%، 3 أضعاف التريزات الموجودة فى الخارج. ولدي مصر احتياطي 5 مليارات متر مكعب رمال بخلاف مناطق أخرى، مشددين على أن المخزون الاستراتيجى سيكفي لعمل 200 سنة للعمل عليها فى مصر لا سيما أن التكريك وصل لعمق 12 مترًا بعدما كان المتخيل أن يكون على بعد 5 أمتار فقط.