رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نفوس شُيدت برخصة هدم مسبقة

لا شك أن البنايات المتينة هي التي ترتكز على دعائم صلبة في التشييد، لتمكنها من الوقوف صامدة أمام عوامل الزمن والتعرية والاستهلاك، وكلما كانت الأساسات ذات جودة صمدت وبقيت، وكلما كانت مترنحة أثبتت فساد موادها وفساد مؤسسيها أيضا مع الأسف، وعلى ذات القياس وبالنظر في تأسيس البشر، الذي بدوره هو الأكثر تعقيداً وصعوبة، فقد عشنا لسنوات نتربى على أن تأسيسنا يرتكز على حقوق التغذية والرعاية الجسدية، فإن اشتد العود وأصبح الجسد متينا بجانب بعض التعليم، فقد أدت العائلة دورها على أكمل وجه وتركتنا على المحجة بقواعد متينة بلا نقصان أو تقصير.

ظلت تلك الأسطورة الواهية قائمة حتى تبعثرت تزامنا مع تأملنا، وتدبرنا حولنا ، فقد رأينا مباني بشرية سقطت وانهارت، وأخرى آيلة للسقوط مع كل هزة أو ظرف يرافق تقلبات الزمن، إضافة للأخبار التي تلتف حولنا كسياج من شوك نصحو ونغفو عليها كل يوم من حوادث انتحار، وجرائم، وحالات إدمان، والزج بالأنفس في طرق متعددة للهلاك من علاقات سامة واختيارات مأساوية، ونهايات محزنة وهلم جرا من تلك الأشياء التي إن دلت على شيء فستدل على أن أساسات تلك المباني واهية، وما أدراك ما تعنيه واهية مبان بنيت دون أساس ورفعت بلا أعمدة.


وشيدت بموان فاسدة وارتكزت على عدم في فضاء واسع كلما احتك بها أحد اهتزت من فوق الأرض معلنة عن أنها بحاجة للدعم فلا يلتفت لها أحد، حتى تكتب لها النهاية وتقع كالمغشي عليها، وبتوضيح أكبر فالأساس الذي لم نهتم به يوما هو من قذف في وجوهنا تلك المشاكل اليوم، فلم نكن مجتمعاً يتحدث عن أهمية البناء النفسي وجودته للأفراد إلا عن قرب، بل كان مجرد التلميح لهذا الأساس وافتقارنا له نوعا من السباب في زمن ليس ببعيد، بل كان التصعيد يصل لحد اعتبار الربط بين أي حادثة إنسانية وبين الوضع النفسي لأصحابها هو نوع من قلة الإيمان والاعتقاد وظل التصعيد يعلو، ويرتفع مبتعداً عن جذور المشكلة حتى انفجرت وأزاحت جميع مبرراتنا ولم يعد لدنيا حل غير الاعتراف والتصديق، والبدء في إجراء أي ترقيع حتى نتمكن مرة أخرى من الاعتناء بالتشييد في المباني الجديدة والحفاظ عليها.


وهذا ما أكده الكثير من الإحصائيات الرسمية التي أعلنتها الصحة عام 2017، حيث ذكرت  أن 25% من قوام المجتمع يعانى من بعض المشكلات النفسية بجانب 0,4% يتلقون العلاج فقط، إضافة لنسبة ضخمة من مرضى الاكتئاب وصلت لـ 43٫7%، و30٫1% يعانون من اضطرابات تعاطي المخدرات، إضافة لوقوع 2355 حالة انتحار عام 2014.


ومن بين كل الإحصائيات تحتل المرأة النصيب الأكبر فأمام كل 10,6% من الرجال المصابين بالاضطراب النفسي يعاني 21% من النساء وفقا لمعهد الصحة القومي الأمريكي، علاوة علي أن عدد النساء الزائرات للمنصة الإلكترونية سجلن 75% من الزيارات أمام 25% من الرجال خاصة للفئة العمرية بين 15 و20 عاما، وعدد من الأرقام تثبت أنهن الأكثر عرضة للاكتئاب، واضطرابات ما بعد الصدمة، والقلق، واكتئابات الحمل والولادة والشعور بالوصم والخزى عند طلب المساعدة بشكل أعلى وقد يعود ذلك لأسباب كثيرة تختلف من حالة لأخرى منها المسئولية الزائدة وتقديم الرعاية الصحية والنفسية للأسرة، والتفكير في المخاوف والتبعات، وقد يكون بسبب وقوع اعتداءات جسدية أو للعنف بشكل أكبر مع ميلها للكتمان والإخفاء وغيرها الكثير من الأسباب.


ومع حلول شهر أكتوبر الذي يحمل لنا في طيات أيامه مناسبات مهمة تذكرنا بفضل الصحة النفسية، وتوعينا بنعمة الفتيات الصغيرات، ولكنه قد شهد هذا العام تزامنا مع ذلك أحداثاً شرسة واجهتها نساء مصريات عزيزات علينا منهن لآلئ ونجوم تلألأت في سمانا، ولكنهن جميعا اشتركن في تذوق مرارة الألم النفسي والتجارب القاسية التي ضربت حصونهن التي رفعت على عدم، وتهاوت بهم أمام الحروب النفسية الوعرةالتي تعرضن لها من أقرب الأقربين، المدعين دوما أنهم الأحرص علينا وعلى صورتنا وبهجتنا في الحياة الدنيا، المدعين دوما أنهم وسائل الإنقاذ وقت السقوط، وبر الأمان وقت الغرق، وربان النجاة وقت التيه.


ومع الأسف لسوء حطنا أننا لم نقع فيهم صدفة بل وقعنا فيهم، لأن كتيراً من من أسسوا حصوننا قد استبدلوها بقبور لهم ألقوا فيها ظلامهم السابق بداخلنا، وكلما هرعنا منهم مستنجدون؛ بأحد ليستبدلها بمصابيح من نور وضع عتمته بجانبهم فكل ظلام دامس اليوم كان أساسه بنية بلا عمد في الأمس، وإذا رأيت ستجدهم دوما بجانبك يتحدثون عن خوفهم ورعايتهم التي- سبحان المولى- دوما تدفعهم لضررك أكثر من نفعك، ثم إذا رأيت في الجانب الآخر ستجد وجوه أخرى تشبههم بمداخل مختلفة ولكننا لا ندرك في البدايات حتى نتذوق نهايات جميعها تحمل نفس الألم.


وأكاد أجزم بأن كل سيدة قد ذاقت ولو قطرات من كأس تلك الحرب، فمن نالت رشفة من الخذلان، ورشفة من الاستغلال، ورشفة من الاغتيال المعنوي، ومن تجرعت طعم الفقد والانكسار في مرحلة ما في العمر، ولكننا على الرغم من سوء المنقلب نحاول جمع شتاتنا وفتاتنا ونمشى بما تبقى للأمام مرممين ما بوسعنا، ومهيكلين ما باستطاعتنا حتى نستشعر النجاة ولو بضع يوم، ولكن أكثر ما يخيف اليوم هو ما يحيط بالفتيات الصغار قبل النساء فما أبشع أن نتجرع أقسى التجارب  ونحن ما زلنا نستشعر نعومة أظفارنا ففتيات اليوم يخضن حروباً ليست عادلة ولا ملاءمة لبنيتهن النفسية والعمرية بمفردهن،فما بين عنف، وووصم، وهجر وإبتزاز، وتهديد وقتل، واحتجاز تقف قتياتنا بشجاعة من أجل بقائهن ونيل حقوقهن وردع من يجور عليها بكل قوة وعلى قدر بأسهن على قدر إحتياجهن للدعم والمشورة ولجوئهن كأكبر فئة في حاجة للمساعدة، وهذا هو ناقوس الخطر بذاته.


الذي مع كل دقة  يحمسنا للإسراع في إيجاد حلول مختلفة لإنقاذ صحة فتيات وشابات الحاضر، من أجل غاليات المستقبل، وفي اعتقادي أننا بحاجة ملحة وضرورية للإصرار منا على بناء أسر ذات كفاءة تستطيع أن تشكل في رعايتها هياكل إنسانية ذات جودة نفسية من فولاذ، أسراً تستطيع أن تعالج عتمة الماضي قبل أن تسعى في تشكيل صغارها وتدرك أن رعايتها، ودعمها وحبها وحوارها هو الحصن المنيع لعبور بناتهن بقوة أمام غاشمة المستقبل وموجعات الزمن، وأن يعوا معنى الحب والإحاطة بحق من أجلهن لا من أجل انتصارات زائفة لحب الذات مغلف في سهام توجهها نحو بناتهن لا على من يضرهن، إضافة لضرورة تكاتف المؤسسات من أجل تقديم وقاية محكمة في نوافذ تعليمية مختلفة، وبتنبؤات عالية لما قد يمرن به مستقبلا تتضمن مواجهة كافة التحديات ومساهمات في انخراط مجتمعي أكثر صحة وبيئة محيطه أكثر نقاء بانفتاح ووعى لكافة التخوفات لنجد جيلاً أصلب  يمتلك حسا في فرز الأشخاص والمواقف من الوهلة الأولى فيدير لا يدار وينجو دون غرق أو هلاك، وتحرق نجومه كل شهاب رصدا يعترض طريقها .