رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشاعر علاء خالد: «السيرة الذاتية» شكل إبداعي يفرض نفسه على ذائقتي (حوار)

الكاتب علاء خالد
الكاتب علاء خالد

حضوري المادي ضعيف بالنسبة للوسط الثقافي وهذا يرجع لطبيعة ممارستي لفعل الثقافة ذاته.. واختياري لقالب السيرة الذاتية لكونه شكل حياتي

بورتريه للكاتب علاء داخل بمدينته الأسكندرية
صورة لديوان ألم خفيف للشاعر علاء خالد
بورتريه للكاتب علاء خالد

علاء خالد مولع بإعمال الحس والحواس ومتفرّد فيما يطرحه من فنون وآداب، وهو شاعر وروائي مولود في الإسكندرية في 1960، حصل على بكالوريوس العلوم من جامعة الإسكندرية، له 4 دواوين شعرية و5 روايات.

كتب في صحف: التحرير وأخبار الأدب، وهو المشرف العام وأحد مؤسسي مجلة أمكنة، التي أثارت كثيراً من الجدل فيما يخص أسفار الزمان والأمكنة ودلالة الصورة وتعدد تأويلها.

صدر ديوانه الأول في التسعينيات، وله 6 دواوين شعرية أخرى، و3 كتب نثرية: الجسد عالق، بمشيئة حبر: شعر - دار مصرية 1990، وأخيرا روايته “متاهة الإسكندرية” الصادرة عن دار الشروق العام الماضي، وكان له مع “الدستور" هذا الحوار:

ما المسار أو الشكل الأدبي الذي تراه قريباً لفكرك وروحك ووجدانك أو ذائقتك الجمالية؟

صورة لغلاف رواية متاهة الأسكندرية ل علاء خالد

ربما الشكل الإبداعي الذي يفرض نفسه على ذائقتي، بتعدد أشكال تجليه، هو "السيرة الذاتية"، سواء كان في العلاقة بالمكان، حضوره في الشعر، الرواية، أو حتى المقال الأدبي، فهو الشكل الذي قارب بين هذه الأنواع، وجعل بينها تداخلا. 

ربما ما يسبق اختياري لقالب السيرة الذاتية، هو شكل حياتي، فبدايتي للكتابة انبثقت من قوام تجربة حياتية، فجعلت اختيار قالب "السيرة الذاتية" به نوع من الحتمية، فحدث التداخل بين سيرتي الشخصية والكتابة بشكل عام. 

بورتريه لعلاء خالد..شاعرا يلقي النثر على جماهيره

هذا الاختيار، أيضاً، جعلني دون أن أتعمد، أبحث عن قالب السيرة داخل النوع الأدبي، بمعنى آخر شخصنة له، وعلى سبيل المثال عند الكتابة عن المكان، أبحث عن طفولته/ بداياته، وتطوره وشيخوخته، فالسيرة تكشف هذه السلسلة من التحولات، وتحاول أن تتعمق داخل ثنايا هذه المفاصل التاريخية، وربما السبب في هذا الاختيار أنني بدأت الكتابة، ومن حولي إحساس بالتحول العنيف، داخلي وخارجي، فكانت فكرة التأصيل عبر استخدام تقنية السيرة، هو السبب، أو البحث عن الأرض التي يمكن البناء عليها وتصديقها والثقة فيها، وسط هذه التحولات العنيفة، وهو ما قمت بتجريبه أولا على نفسي، في ديواني الأول "الجسد عالق بمشيئة حبر"، وبدأ يتشكل قوام هذا القالب، فذاتية الآلية المستخدمة كان بها هذه الإمكانية لصياغة منهج قادر على الحوار مع أي نوع أدبي آخر، فالسيرة بها إمكانية "أنسنة" النوع الأدبي، من أجل تبادل الاكتشاف والحوار معا.

صورة لأحد أغلفة مجلة أمكنة ل علاء خالد

بعد ما يزيد على 3 عقود مع السرد والشعر، كيف ترى حصاد الرحلة؟

ربما الحصاد شخصي تماماً، أو كيف أقطر هذه الرحلة مع الأدب والمجتمع الأدبي والثقافي، لأستخلص الجزء المغذي لروحي، والمتخلص من الصراع أو أوهام النجاح الرائجة. 

للأسف يجب أن نتعلم بأنفسنا، كيف نجرب ونستفيد من تجاربنا التي تكلفنا كثيرا، وأن نقوم أيضا باستخلاص الأفكار الجوهرية من هذه العملية المزدوجة والمعقدة، كأننا آباء لأنفسنا، ولأفكارنا، ولنفوسنا. أن نصنع هذا "الآخر" من هذه التجارب العصامية. 

"آخر" يمكن أن نتجادل معه وليس أن ننازعه الملكية أو نحارب ضده. ربما تعلمت ربما كيف أربي طموحي، وأربي نفسي وأروضها كي أقيم مملكتي على جزء من كينونتي، وليس على كاملها كما كنت أطمح عند بدايتي لرحلة الكتابة. 

وأهم ما في هذه المملكة هو الحفاظ على الاتساق النسبي، فصراعنا الآن ليس مع أفكارنا، وأفكار الآخرين من أجل تطويرها، إننا في صراع مع العدم والخواء الذي يحوط بنا. هذا الواقع بقوته وعدميته وخوائه ثقب نفوسنا، ومن هذا الثقب تتسرب مادة الحياة.

غلاف رواية أكتب إليك من بلد بعيد ل علاء خالد

عن الإسكندرية وسحرها في تفاصيل الحكي، كيف تدفقت تجربتك في كتابة “متاهة الإسكندرية"؟

بورتريه للشاعر علاء خالد

علاقتي بالإسكندرية بدأت منذ علاقتي بالقراءة وحبي لشعر أمل دنقل وقصيدته عنها، بعدها بدأ المشهد يتعقد أكثر مع داريل ورباعيته على الإسكندرية وكل من كتب أو عاش فيها خاصة الأجانب، ولكن بموت والدي حاولت اكتشاف إسكندريته، عبر التسكع في الأحياء التي عاش فيها طفولته، وشبابه، محاولا استعادته عبر السير التي أتوقف عندها، بجانب حكايات والدتي عن الجيران اليهود وابنهم الذي كان يرفع المصحف لجارته، التي هي والدتي كنوع من المحبة.

من هذه التداخلات الرمزية وعبر السير، بدأت أبحث عن إسكندريتي الخاصة، المكان الذي يعنيني وبدون سؤال أو رد على سؤال سابق، "إسكندرية درجة الصفر"، أرسم خريطتها بالتسكع والتتبع لإسكندريات أخرى لكنها ذائبة تماما وخالية من مرجعيتها. 

داخل "إسكندريتي" هناك أشباح لإسكندريات أخرى ذائبة فيها، وبعد هذا العمر بدأت كتابة "متاهة الإسكندرية"، ومن قبلها "وجوه سكندرية"، والتي ترسم خريطتي الشخصية للمدينة، هي إسكندرية التسكع في الحاضر وفي التاريخ الشفهي لها والذي كان جزءا من شخصيتها، فالرواية مثل رسالة أودع بها الإسكندرية التي أعرفها، فأنا مولع بالخرائط، وأعتبر الرواية خريطة وراءها تقف خرائط أخرى، تشف على بعضها، كان كل موقع أو حادثة له أبعاد ثلاثية مجسمة وغائرة في الزمن والتاريخ، وربما أنا أيضا تحولت مع الرواية إلى "راو" له كثافة داخل هذه الأزمان والتواريخ والأماكن. ربما هي الرواية الأولى لي بعد كتاب وجوه سكندرية"، التي تتعامل مع المدينة كمفهوم أحاول تتبع أثاره وأصدائه.

عن تلك التجربة لأمكنة، لماذا تباطأت حالة النشر لهذه المجلة المهمة؟

بورتريه للكاتب الفنان علاء خالد

مجلة "أمكنة"، أعتبرها أول تجربة جماعية أشارك فيها، كنت أحتاجها في غياب أي فكرة سياسية أو اجتماعية يمكن أن تلبي طموح الروح في تجاوز ذاتيتها، كنت أجد في تجربة المجلة خروج من مأزق الذاتية، بكل تمثلاته. 

تفرّدت في عالمك الشعري والروائي، أين أنت من الوسط الثقافي والإبداعي؟

غلاف لأحد أعمال الكاتب علاء خالد

حضوري المادي ضعيف بالنسبة للوسط الثقافي، وهذا يرجع لطبيعة ممارستي لفعل الثقافة ذاته، إما من خلال المجلة أو من خلال كتبي واللقاءات الثقافية. فالفكرة الثقافية ذاتها، بالنسبة لي، تقوم على الفرد بشكل أساسي وبدون غلو في هذه "الفردانية"، كونه عضوا فاعلا في مجتمع أكبر غير مصنف، ولا ينتمي له بالفكر بل بالوجود، ومن هذا المدخل نشأت علاقاتي مع الوسط الثقافي، فأنا بالنسبة لأجيال جديدة شبح، يظهر نادرا، ربما هذه العلاقة "الشبحية" تريحني، فلا أكون مطالبا بإثبات حضوري في "دفتر الحضور والانصراف"، علاقة بها مزاجية الفرد وزهقه وملله وزهده في التواجد بمشهد ثقافي لم يعد موجودا وتحول بالفعل إلى مشهد بأثر رجعي.

عن الجيل والمجايلة، كيف تفسر هذه الإشكالية وهل تؤمن بالمجايلة وخاصة منذ بدء مشروعك الإبداعي لم تفارق الإسكندرية؟

صورة لغلاف كتاب علاء خالد أشباح بيت هاينريش بول

كان هدفي في بداية حياتي مع الكتابة أن لا أبرح الإسكندرية، لم أكن أعترف بهذه النزوحات التي قامت بها أجيال أسبق، كونها تزيد من هذه المركزية، وتعمق فكرة السلطة الثقافية، ولاتفتح المجال بل تغلقه، فالنجاة، في هذه النماذج، ذاتية تماما، وتعيد رسم خريطة النجاح الفردي بالسفر للمركز، لكن هذا لم يمنع أبداً من الاتصال وتكوين علاقات قوية لها صبغة فكرية وإنسانية، مع كتاب وكاتبات في كل مصر، في القاهرة بالذات، التي كنت شبه مقيم بها في بدايات التسعينيات، خلالها تعرفت على أكثر من جيل شعري وأدبي يتفرق غالبيته بين جيلي الثمانينيات والتسعينيات.

أعتقد أن فكرة الجيل موسومة بشكل ما، لأنها ليست في حوار مع "آخر" بل فكرة داخلية مثل "الأخوية الدينية" لكن بدون تضحيات، تربط مجموعة من الناس والكتاب الفوارق الفكرية بينهم كبيرة، والكل داخل مفرمة المجتمع يريد أن ينجو. ربما الجيل الحر، ولم يكن جيلاً بالمعنى المادي، هو جيل الثلاثينات والأربعينات، لأنه خلق أفرادا وليس تجمعات، ولكن دخول البعد السياسي في تنظيم الحياة والمجتمع الثقافي حول هذه الفردية إلى شلة.

صورة لغلاف ديوان كرسيان متقابلان ل علاء خالد

العزلة والخواء والاستقلال والسفر والوحدة والصمت. كلها متاهات أفضت سرودها الكثير من الآلام على مستوى طرحك الكتابي، فكيف ترى علاقة البنية الذاتية والنفسية بما يطرحه الكاتب؟

أعتقد أنني اخترت القالب الذي يوافق بنيتي النفسية، مشيت وراءها، وأسلمتني لحقيقة ما يشبه نفسي في النهاية، وأحيانا وضعتْ أمامي الحواجز كي اجتازها، داخل هذه البنية النفسية كنت أكشف تاريخا متناقضا كامنا فيها، يحتاج كثير من العمل والدأب، كانت بنيتي النفسية وطموحي هما المحلل النفسي الذي أجلس أمامه ليكشف أماكن قوتي وضعفي، وأيضا الذي يملأ هذه الفراغات التاريخية والنفسية، تحول كل هذا بشكل ما إلى وثيقة أو نص كتابي، به حس الاعتراف، فالاثنان، البنية النفسية والنص الناتج عنها، صنعا هذه الدائرة الحوارية . 

في مرضك الأخير قلق كثيرون من محبيك على قوامك الفني والإنساني، كيف ترى حصاد تلك العثرات؟

حصاد هذه العثرات المرضية، هو المزيد من الصبر والتقبل والقليل من الغضب، وربما تزايد الرغبة في حيازة حياة زاهدة ولكنها ثرية بالمحاولات، وأيضا خلق نفس زاهدة بدون تواضع زائف، بل كاختيار حقيقي. فالمرض يعلمنا المساواة، وهناك "آخر" كنت أتجنبه أو أخشاه ولا أريد أن أتمثله خوفا من أكون مريضا مثله، الآن صار هذا "الآخر" جزءا مني، أو أنا صرت جزءا منه.

كل ما يدور في العالم من حروب وأوبئة ساهمت لحد مرعب في تقليص دور الأدب وتحديدا مع انعدام الحرية والعدل، كيف ترى مستقبل العالم فكريا في ظل هذه الأحداث؟

غلاف ديوان خطوط الضعف ل علاء خالد

ربما تجاوزنا الزمن ونحن وراءه، لا سلطة لـ"أنا" نشعر بالامتلاء أو الحوار مع أي فكرة خارجا. هناك " أنا" تائهة"، لا تملك أن تتواقت مع هذا المرور المريع للزمن والتاريخ معا. الزمن ليس هنا، لقد أخطأنا. ونعيش على هذا الفراغ العدمي الذي خلفه مروره. أعتقد أن لاوجود للحظة إشباع حاليا، كل مافي الأمر  تماسات مع ذات وطموحات غائبة. النجاح الآن مؤقت وباهت، ومسحوب منه الدسم. كم تبقى من ذواتنا التي نعرفها لنلقي عليها بالمسئولية، أو ننتظر منها الإجابة، لقد اختفت هذه الذوات في قضايا خاسرة تماما.فاتنا الوصول إلى لحظة السعادة، أو الاتساق أو الحكمة، لم يتبق سوى النجاح المادي وحلم الثراء، لذا هناك هذا الصراع  على لقمة العيش الذي أصبح يقود ويصوغ حياتنا الأدبية.

عن " كيمياء" وصبغة الشعرية الدقيقة في مناح كتاباتك وطروحاتك المتعددة، والتي تتعدد تأويلاتها، هل هناك ثمة تأثر بدراستك الجامعية في "العلوم"؟

علاقتي بالدراسة في الكلية "كيمياء حيوية" كان لها تأثير في كتابتي، حتى تجريد المعادلات، وفي الوقت نفسه تكشف هذه المعادلات عن وجود إنساني بلحم ودم تجري داخله، وتكشف خصائصه، فهذا التجريد أو الرمزية يقف وراءها لحم حي، هذه العلاقة بين التجريد والتشخيص أعتقد أنها كانت جزءا من رحلتي في الكتابة، أقف في مكان بينهما، أبحث عن الرمز الذي يدل على جماعة حية، أو عن مفهوم له ارتباط مباشر بحياة الناس وذاكرتهم الجمعية أو بحياتي بشكل ما.

بورتريه للكاتب علاء خالد

أخيرا.. كيف ساهم استقلالك وبعدك عن الوظائف التقليدية في بلورة رؤيتك تجاه الفن والأدب؟

ربما ساهم استقلالي والبعد عن الوظيفة التقليدية في أكون جريئا في اختياراتي، وعندي قدرة على "التخلي"، فقد كانت استقالتي من الوظيفة هي البداية التي حاولت ألا تكون النهاية، فكان أمامي الكثير من العمل كي أثبت لنفسي أنني أستحق هذه "الحياة المتمردة"، ليس بكونها حياة متمردة على التقاليد أو الدين أو السلطة، ولكنها"الحياة المتمردة" التي تحتوي الدين والتقاليد والسلطة، ويكون لها سياق داخل الحياة الاجتماعية، ربما هنا المكان الذي بنيت فوقه تجربتي الحياتية والأدبية.

أما الإسكندرية فستظل باقية في حضورها الرمزي، بعيداً عن حضورها المادي الذي أصبح ثقيلا بشكل ما، ولكن هذا مأزق المدن الكبيرة ذات التاريخ القديم، أنها لاتملك القدرة على التحول السريع والتنصل من كل ماضيها، لذا ستظل المفارقة حاضرة بين مدينة حديثة لا أحبها، ومدينة قديمة تظل تبعث الحنين لها، بشكل ما، سيظل هناك دائما من يتمثل هذا التناقض داخله، ويتماهى مع المدينة بوصفها إنسانا. ربما لا يوجد الآن انحياز صاف لفكرة، إلا بقبول تناقضاتها ، فالحب أو الكره أو أي عاطفة هي خليط من أزمنة مختلفة، تحضر هذه الأزمنة وتتصارع داخل قلب المحب، أو المواطن العادي ابن المدينة. ربما هذا التناقض هو الكاشف لعلاقتي بالمدينة، التماهي الذي به قدر كبير من "التخلي".

صورة لغلاف تحت شمس ذاكرة أخرى ل علاء خالد