رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتحدة للخدمات الإعلامية.. شكرًا لبدء معركة الهوية!

«1»

حين تتعرض أمة لمحنة تهدد استمرار وجودها ثم تعبر لحظة الخطر الوجودى، فلا بد لنخبتها أن تقف أمام المشهد وتدرسه دراسة موضوعية للإجابة عن سؤال واحد: لماذا حدث ما حدث؟

وما تعرضت له الأمة المصرية فى السنوات من بداية 2011م وحتى 2014م لا يمكن اعتباره أحداثا عادية عابرة. لقد كانت مشاهد حاسمة فى خطورتها هددت بقاء الدولة المصرية كما هددت بتغيير وجه تلك الدولة فى حال بقائها وأنذرت بدخول مصر فى تيه ظلامى دامس.

لقد عبرت مصر كمين النار بالفعل، لكن هذا العبور سيبقى مهددا إن لم تتدارس الأمة المصرية بعمق وحيادية الأسباب، لكى تضع خططا وقائية حقيقية، بعضها قصير الأمد للتعامل مع التداعيات العاجلة، وبعضها طويل الأمد يضمن عدم تكرار هذا الخطر الوجودى.

المهتمون بالشأن العام فى مصر يعلمون منذ سنوات أن أهم الأسباب لما حدث هو ارتباك مفهوم الهوية المصرية لدى قطاعات كبيرة من المصريين. صناع هذا الارتباك كُثرٌ، بعضهم ساهم فى صناعته بالفعل والتخطيط، وبعضهم ساهم فى صناعته بالتكاسل عن القيام بدوره المفترض أو التواطؤ مع الفاعلين!

«2»

فى عقود النصف الأول من القرن الماضى لم تمنح ظروف مصر السياسية للمصريين رفاهية مناقشة مسألة الهوية حتى قيام ثورة يوليو. بعد قيام تلك الثورة المصرية البيضاء- وبدوافع ظروف المشهد السياسى فى مصر وجاراتها من الدول العربية- طغت فكرة القومية العربية على ما عداها. فنشأت أجيال كثيرة وتربت على تلك الفكرة وتلاشت أمامها الهوية المصرية التاريخية.

بعد نصر أكتوبر بسنوات قليلة، أهدر المصريون فرصة تاريخية نادرة لبحث وتحديد إطار صحيح وموضوعى لقصة الهوية المصرية. واستغل تلك الفرصة تيارٌ دينى ذو خطاب عنيف دموى- كرسته جماعاتٌ متطرفة وكثيرٌ من العلماء الرسميين- لا يعترف أصلا إلا بالهوية الدينية. 

عبث هذا التيار- بتكاسل أو تواطؤ من مؤسسات الدولة- بالعقل الجمعى المصرى لمدة أربعة عقود، بعدها تشوه العقل الجمعى المصرى واتخذت قطاعات جماهيرية كبرى موقفا عدائيا صريحا من الهوية المصرية الوطنية لدرجة أن حجبا وأستارا من التناسى العمدى تم ضربها على أهم حدث تاريخى وطنى وهو انتصار أكتوبر. 

وتربت أجيالٌ كاملة على أننا حين نذكر كلمة «أمة» فإنما نقصد الأمة الدينية المسلمة، وأن أى انتصار لا يتدثر بذلك الرداء إنما هو حدثٌ عادى لا يرقى إلى وجوب الاحتفاء به مثلما نحتفى بأحداثٍ مرت عليها قرونٌ طويلة!

حتى وصلنا إلى مشاهد الفوضى فى يناير 2011م والتى مثلت أجواءً مثالية لأنصار ذلك التيار لجنى ثمار غرسهم الأسود فى العقل الجمعى المصرى!

«3»

هناك لحظات قدرية يكتبها الله لأمة ما يمكنها أن تغير مصير تلك الأمة تماما. هذا بالضبط ما منحه الله لمصر بعد ثورة يونيو. لقد كان ممكنا أن تكتفى القيادة الجديدة بمهمة إنقاذ عاجلة للبلاد من الأخطار التى هددت وجودها. كان يمكن لتلك القيادة الاكتفاء بذلك، وكان سيحسب لها ذلك النجاح لولا أن الله أراد بالأمة المصرية خيرا. 

فقد فاجأتنا تلك القيادة العليا- ممثلة فى رأس الدولة أو شخص الرئيس السيسى- بأنها ولأول مرة تقتحم ملف الهوية بجرأة ووعى سوف يقدره المصريون حق قدره يوما ما!

لأول مرة يستخدم رئيس مصرى عبارات مثل الأمة المصرية والمصريين، وذلك فى موضع مخاطبته للشعب المصرى. ولم يكتف بمجرد الخطاب، وإنما قرر اقتحام ملفات هؤلاء الذين عبثوا بالعقل الجمعى المصرى وشوهوا الهوية المصرية. فلأول مرة يواجه رئيس مصرى الخطاب الدينى المشوه ويتخذ من الخطوات ما يروضه ويعود بالمصريين إلى هويتهم الحقيقية!

أؤمن تماما بأن المصريين لن يستفيقوا حضاريا دون تنشيط الهوية الحقيقية للأمة المصرية، فهذه إحدى سمات المصريين، تنشيط الهوية يستنهض عوامل القوة لديهم، وأخيرا وجدتُ قيادة مصرية على رأس الدولة المصرية تؤمن بهذه الفكرة وتعمل على تحقيقها على الأرض!

«4»

ولكن قد يستاءل البعض: وما هى هذه الهوية المصرية؟ وهل تعنى الانسلاخ من الدين مثلا؟ أو تعنى التنكر للمحيط الجغرافى العربى؟!

هوية أى أمة تشبه تماما بطاقة الهوية للأفراد ملحقا بها التاريخ السياسى والحضارى لتلك الأمة والذى يعتبر المكون الأساسى للخريطة النفسية لتلك الأمة!

فهى لا تتعارض أو تعادى الأديان، ولا تتنصل من انتمائها الجغرافى، ولا يريد من ينادى باسترجاعها سلخ الشعب المصرى من إسلامه أو مسيحييته!

فهوية مصر أو بطاقتها الشخصية يجب أن تعود بها إلى تاريخ مولدها الحقيقى! لا يصح أن تتنصل أو تتبرأ بطاقة هويتها من عدة آلاف سنة وتكتب لها تاريخ ميلاد حديثا يعود إلى ألف وأربعمائة عام! ففى هذا افتئاتٌ على مصر وإجحافٌ لحقها ومحاولة طمس متعمدة لشخصيتها لن تصمد طويلا!

فمصر أعرق دولة لها حدود ثابتة فى التاريخ الإنسانى الموثق. وهى دولة قائمة على فكرة الأرض. هى عاصمة الحضارة الكونية. منبع العلوم والفنون وأصل الأشياء..

.. تُجل فكرة الدين ولا تتمرد على الله الخالق. مصر بحثت عن الله وعرفته وعبدته قبل أن يعرفه الآخرون..

.. جذورها العرقية لم تندثر أو تنقرض أو يتم استبدالها بجذور عرقية جديدة غريبة. فهناك تواصل حضارى. طرأت على تلك الجذور بعض الجماعات الأخرى فى عصور مختلفة، أثرت وتأثرت بالأصل، لكن ظلت دائما الغلبة للأصل الأول!

.. حين اعتنق أهلها الديانات الإبراهيمية، لم يكونوا فى حاجة إلى حضارة، وإنما جاء اعتنقاهم لها ترحيبا وصياغة اسمية جديدة لما كان موجودا بالفعل!

.. علاقاتها مع جيرانها أبدية، تجنح للسلام إن جنحوا، وترحب وتمنح دائما الملاذ والزاد للخوفى والجوعى، وتنشب مخالبها الشرسة فى وجوه المعتدين! 

.. لا يمكن أن تنصهر فى جيرانها بشكلٍ يلغى شخصيتها وكيانها، ولا تتنصل أو تتنكر لحقوق الجيران!

هذه هى هوية مصر.. أمة مصرية مستقلة لا يصح أدبا أن تُلحق بأمة لاحقة لها فى التاريخ!

«5»

فى عصر القنوات المفتوحة، يمثل الإعلام أحد أهم الأسلحة التى يمكن أن تستخدمها دولة فى معركتها المشروعة. ولقد لعب الإعلام المصرى- ممثلا فى أقوى أذرعه وهو التليفزيون- دورا سلبيا فى العقود الأربعة السابقة لأحداث يناير 2011م. 

لقد كرس هذا الجهاز- قبل انتشار القنوات الفضائية- لفكرة الهوية الدينية للمصريين، بل وساهم بشكل قوى فى تشويه التاريخ المصرى وشيطنة الحضارة المصرية العتيقة والمشكلة لسمات الشخصية المصرية الأصيلة. 

مؤخرا، وبعد مشاهدتى المحتوى الإعلامى والإعلانى الذى تقدمه الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، لا يسعنى سوى أن أتقدم للقائمين عليها والعقول المفكرة والمنفذة لذلك المحتوى بشكر حقيقى نابع من متابع ومدقق لقضية الهوية المصرية!

فشكرا لمن يقومون بتحقيق جزءٍ مما كنت أظنه حلما بعيد المنال حتى سنوات قليلة... 

.. إزالة الأتربة عن إرث مصر الحضارى وتاريخها الحقيقى منذ البدء هو البداية الحقيقية لتصويب ما أفسده الإعلام سابقا!

.. الأفلام التسجيلية القصيرة عن أبطالنا المصريين الحقيقيين، ورغم تأخر ذلك كثيرا، لكنه خطوة قوية وصحيحة لتصويب المسار!

.. عدم الاكتفاء بإنتاج أعمال درامية عن أحداث العقد الأخير فى مصر، وفتح الباب على مصراعيه لإنتاج أعمال تصحح ما أفسدته الدراما الدينية فى قضية الحضارة المصرية هو خطوة تستحق الإشادة وننتظر المزيد منها!

.. إعلانات «أخلاقنا الجميلة» تستحق الإشادة وتكريم صاحب الفكرة..

«6»

هذا الإدراك لما يتم إنجازه فى الاتجاه الصحيح يدفعنى إلى الهمس فى أذن القائمين على ذلك الصرح المصرى العظيم ببعض الهمسات حتى تكتمل الصورة!

الهمسة الأولى: هى التدقيق فى محتوى البرامج الدينية، حتى وإن كان ضيوفها ممن تم تصنيفهم فى صفوف المعتدلين! خاصة ما يخص القضايا الشائكة التى دفعت مصر ثمن اعتناق بعض رجال الدين لها غاليا من دماء أبنائها..

وسأضرب مثالين، أحدهما عن محتوى حلقات دكتور أسامة الأزهرى، تحت عنوان «علاقة العلماء بالحكام».. فقد طال الحوار وامتد كثيرا دون أن يقول الضيف أو مضيفه أهم الحقائق..

.. كنتُ أنتظر من أىّ منهما أن يقول بشكلٍ واضح صريح قاطع إننا الآن فى عصر جديد له مفردات جديدة، وإن الحكام لهم مؤسسات استشارية متخصصة فى كل مجال.. وإن علماء الدين ليسوا خبراء بكل القضايا.. وإنهم ليسوا ذوى شأن فى السياسة وأمور الحكم وأمور الطب والاقتصاد وغيرها من مجالات، خاصة أنهم- أى رجال الدين- هم من دأبوا على ترهيب الناس من الاقتراب من التراث الدينى بحجة عدم التخصص رغم أن هذا حق لكل مسلم!

أما المثال الآخر، فهو حلقات د.خالد الجندى ومهاجمته فى بعضٍ منها وبشدة التيار التنويرى الذى يطالب بتنقية التراث الدينى وإخضاعه للدراسة الموضوعية، خاصة السيرة النبوية الكلامية المنسوبة للنبى (ص)!

أما الهمسة الثانية: فإننا بحاجة لعدد من الإعلانات التوعوية بصناعة السياحة فى مصر. وهنا أنا لا أقصد توعية المصريين بالأهمية الاقتصادية لتلك الصناعة، وإنما توعية المصريين بحقيقة السائح الزائر، وأنه مواطن يعمل فى بلاده سنوات حتى يستطيع توفير تكلفة رحلته..

.. فهو ليس «غنيمة» مستباحة ماديا، وأننا المصريين لسنا متسولين! وأن أى سائحة تزور مصر هى سيدة لها حياتها الخاصة، وليست بائعة هوى أتت لاهثة خلف فحولة المصريين!

أما الهمسة الثالثة والأخيرة، فهى أننا ربما نكون بحاجة لمجموعة إعلانات مصرية تحاكى إعلانات حسنين ومحمدين، فربما يستفيق المصريون ويحاولون إنقاذ بلادهم من جريمة الانفجار السكانى!