رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ضحية الانتماء العائلى

رحلة عثمان بن عفان، رضى الله عنه، كإنسان تشهد على ما يمكن أن تفعله فكرة الصورة النمطية بالبشر وفى البشر. فمن ينتمى إلى عائلة كبيرة إذا نجح يصعب أن يعزو أحد نجاحه إلى اجتهاده، فدائمًا ما سيقال إن شبكته العائلية هى التى بنت نجاحه، ولولاها لكان لا شىء، والمنتمى إلى عائلة متواضعة قد تدفع الغير إلى تفسير سلوكياته بتواضع الأصل كلما صدر عنه ما يغضبهم، بغض النظر عن كونه على حق أم على باطل. كذلك أثرت الصورة النمطية السائدة عن «العائلة الأموية» فى التجربة الإنسانية المديدة للخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان.

عثمان بن عفان كان فى الأغلب قمحى البشرة، متين البنيان، متوسط الطول، كثيف الشعر، يتمتع بملامح حسنة تنم عن وسامة، وكان نجمًا من نجوم التجارة فى مكة، وينتمى بالمولد إلى العائلة الأموية، فهو ابن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس، وكان أول من أسلم من أبناء العائلة الأموية على يد أبى بكر الصديق، بل قل كان من أوائل من أسلموا من مشاهير مكة، وهاجر إلى الحبشة مرتين، هربًا من مطاردة مشركى مكة للمؤمنين، وتزوج من رقية ابنة النبى، صلى الله عليه وسلم، ولما توفيت تزوج شقيقتها أم كلثوم. وحالت ظروف مرض زوجته رقية- قبل وفاتها- دون المشاركة فى غزوة بدر، كما حال ابتعاثه إلى مكة لمفاوضة كبارها قبل صلح الحديبية بينه وبين المشاركة فى بيعة الرضوان.

تعلم أن هناك حزبين تنافسا على السيادة على مكة قبل بعثة النبى وأثنائها وبعد وفاته، صلى الله عليه وسلم، هما حزبا بنى هاشم وبنى أمية. شاء الله أن تكون النبوة فى بنى هاشم، فآمن بعضهم، وكتم بعضهم إيمانه فى صدره، وانحاز إلى دعوة النبى فى بداياتها العديد من البطون ذات الصلة ببنى هاشم. الوضع كان مختلفًا داخل العائلة الأموية، فقد نابذوا النبى العداء، لا لشىء إلا لأنه من بنى هاشم، واعتبروا دعوته مجرد محاولة هاشمية للتميز عليهم، ولعلك تذكر المقولة التى اختزنتها كتب التراث لأبى سفيان بن حرب بن أمية وهو يلوم أبا طالب بن عبدالمطلب بن هاشم: «كنتم إذا أطعمتم أطعمنا.. وإذا كسوتم كسونا.. والآن تقولون منا نبى.. فمتى يكون منا نبى؟!». قاد أبوسفيان الأموى العتيد الحرب ضد النبى منذ أن جهر بدعوته، وهو أيضًا الذى قاد جيش المشركين فى بدر، وكذلك فى غزوة الخندق، وهو الذى هتف بعد هزيمة المسملين فى أحد: «اُعلُ هُبل.. إن لنا العُزّى ولا عُزى لكم». وأبوسفيان وغالب بنى أمية من الطلقاء الذين أسلموا بعد الفتح.

إسلام عثمان «الأموى» كان له دويه بين بنى هاشم وبنى أمية، وبقدر ما خدم عثمان الإسلام وضحى فى سبيله بما يملك من مال، بقدر ما لم يبرأ البعض من الغمز فى انتمائه العائلى، وتستطيع فى ضوء ذلك أن تفهم حكمة النبى، صلى الله عليه وسلم، حين قرر تزويجه من ابنته رقية، وبعد وفاتها أصر على تزويجه من ابنته الثانية أم كلثوم، فقد كان حريصًا على محو تأثير فكرة الانتماء العائلى أو القبلى أو العرقى من النفوس التى ربط الإسلام بينها، يشهد على ذلك أيضًا مقولته الشهيرة فى حق سلمان الفارسى «سلمان منا أهل البيت». ربما نامت فكرة الانتماء العائلى لبعض الوقت، بعد فتح مكة ودخول العرب تحت راية الإسلام، لكنها سرعان ما قفزت من جديد بعد وفاة النبى، حين مال الأنصار وكبار ممثلى العائلة الهاشمية إلى تولية على، ومال المهاجرون والعائلة الأموية إلى أبى بكر «من بنى تيم» وعمر «من بنى عدى»، ثم قفز الصراع بين بنى هاشم وبنى أمية بصورة صريحة بعد استشهاد عمر بن الخطاب، وقت المنافسة بين على بن أبى طالب «الهاشمى» وعثمان بن عفان «الأموى».

آل الأمر كما تعلم إلى عثمان، وتقبل على بن أبى طالب الأمر، لكن بقى فى نفوس بعض المسلمين شىء، فبدأ البعض يتحدث عن عثمان الذى لم يشهد بدرًا، ولم يحضر بيعة الرضوان، كان جيل الكبار من المسلمين فى ذلك الوقت يعلمون الأسباب، لكن الشباب لم يكونوا كذلك، فبدأ بعض الآذان يسمع وبعض الألسنة يردد، ثم اتسعت مسألة الاتهام إلى «العائلة الأموية» التى ينتمى إليها عثمان، وانتشرت الأقوال عن الانحياز العائلى لعثمان، وكيف أنه يؤثر أفرادها بالمناصب والأموال، وأن هذه البطانة حجبت الخليفة عن المسلمين، وأنها السر وراء الكثير من القرارات التى اتخذها وكانت محل رفض من الشعب المسلم حينها، مثل ضرب ابن مسعود ونفى أبى ذر الغفارى، رضى الله عنهما. بدأت النفوس الميالة إلى بنى هاشم تستدعى من الذاكرة العداء الذى أبداه بنو أمية ضد الرسول عندما جهر بالدعوة إلى الله، وكيف قادوا الحرب ضده، ولم يسلموا إلا والسيف فوق رقابهم بعد فتح مكة.

تكاملت أبعاد الصورة النمطية التى توارثها البعض حول «العائلة الأموية» وأسقطت على عثمان بن عفان، فكانت الثورة ضده، وهى ثورة تجد حولها كلامًا كثيرًا فى كتب التاريخ، ملخصه أن جموعًا من مصر والكوفة والبصرة التأمت فيما بينها وحاصرت الخليفة، وأن السبب المباشر فى غضبة الثوار عليه وتسورهم داره واغتياله ارتبط ببعض الرسائل الممهورة بخاتم الخليفة الذى استولى عليه كبار بطانته من بنى أمية.

قُتل عثمان، رضى الله عنه، مظلومًا، أو قل كان ضحية للصورة النمطية السائدة عن العائلة الأموية والتى انفجرت العقول بتذكر مواقفها السابقة المعادية للإسلام، رغم دخول أفرادها فى دين الله، لكن الذاكرة كما تعلم انتقائية، والصور النمطية تتأسس على الانتقاء، وكذلك كانت رحلة عثمان فى الحياة كإنسان عانى فى أحوال من ظلم من حوله بسبب انتمائه العائلى، وربما كان فى أحوال أخرى ضحية الضغوط العائلية التى مارسها عليه كبار الأمويين.