رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سرقة المسلات المصرية ( 3 )

عند هذا الحد توقفت مباحثات القنصل الأمريكي بخصوص المسلة المصرية , وتأزمت أمور الخديوي المالية , ورفض أصحاب الديون رآسة ديلسبس للجنة التحقيق , ونظمت لجنة جديدة طالبت بتقليص عدد الموظفين في الحكومة المصرية , وعلي ذلك تم التخلص من الضباط الأمريكيين الذين يعملون في الجيش المصري , وكان لهؤلاء تعويضات بسبب عدم انقضاء المدة التي تعاقدوا عليها وعدم عودتهم ,وتعقدت العلاقات الأمريكية مع الحكومة المصرية . 
وتشكلت في مصر وزارة جديدة برآسة نوبار باشا , وكانت أعمال تلك الوزارة مستقلة عن الخديوي , وبالتالي أصبحت المسالة في يد الوزارة الجديدة . 
لأجل هذا حاول القنصل الأمريكي مع نوبار باشا رئيس الوزراء , وأخبره نوبار أنها إذا كانت رغبة الخديوي فلن يعارضها , ولو انه شخصيا – أي نوبار يعارض – نقل المسلة إلى أي جهة خارج مصر .
بعدها طلب نوبار من مارييت رئيس مصلحة الآثار رأيه في مسألة المسلة . وقدم مارييت مذكرة أشار فيها إلى أهمية مسلات الأقصر والكرنك وهليوبوليس . وهو ما فهم منه رئيس الوزراء ضمنا انه لا يعارض نقل مسلة الإسكندرية .
ويشير القنصل الأمريكي في كتابه " مصر وكيف غدر بها " , إلى أن مارييت هذا كان لص آثار كبير , فهو قبل أن يعين في خدمة الحكومة المصرية حصل على جزء كبير من الآثار , وانه يحتفظ بطريقة سرية بكل الآثار التي أكتشفها , ولم يظهرها أثناء المفاوضات التي قام بها مع الحكومة المصرية بشأن تلك الآثار , ولا تزال المجموعة التي حصل عليها مارييت والتي تبلغ حوالي سبعة آلاف قطعة موجودة في متحف اللوفر بفرنسا.
غير أن رئيس الوزراء نوبار , عاد واخبر القنصل الأمريكي , أنه رغم معارضة مارييت فإنه سيعطيهم مسلة الإسكندرية المعروفة بإسم مسلة كليوبترا , وقام نوبار بإعداد مذكرة سلمها لوزير الأشغال العمومية , وهو فرنسي (مندوب فرنسا في الحكومة) يطلب منه أن يسلم المسلة إلى الأمريكان . 
ثم تسارعت الأحداث , وقام نوبار بفصل عدد من الضباط والجنود المصريين دون أن تسلمهم مرتباتهم , كما حدثت مجاعة في الوجه القبلي بسبب الضرائب التي فرضها إسماعيل على الأهالي , وقام الضباط المفصولون باختطاف نوبار باشا , ومعه أحد الوزراء الإنجليز بعد خروجهم من مبني رئاسة الوزراء , وأدخلوهم مبني وزارة المالية القريب من مبني رئاسة الوزراء . ولم يفرجوا عنهم إلا بعد وصول الخديوي شخصيا , وفي صباح اليوم التالي استقال نوبار من الوزارة .
وبعد مفاوضات استغرقت شهرا أعيد تشكيل الوزارة برئاسة الوزيرين الفرنسي والإنجليزي . بعد ثمانية عشر يوما رفض الخديوي التعاون مع الوزارة الجديدة التي سلبته كل اختصاصاته , وقام بتشكيل وزارة أخري من المصريين تحت رآسة شريف باشا . 
وبدأت حكومات لندن وباريس العد التنازلي لإقالة الخديوي عن عرشه .
هل هي لعنة الفراعنة ؟ 
وأعاد القنصل الأمريكي عرض موضوع المسلة على شريف باشا رئيس الوزراء الجديد , وأخبره شريف باشا انه سينفذ رغبة الخديوي بعد عرض الأمر عليه . 
وبعدها عاد شريف باشا وأخبر القنصل ان سموه وافق على نقل مسلة الإسكندرية . 
لم يصدق القنصل ما أخبره رئيس الوزراء . 
وطلب ان يكون لديه شئ مكتوب يرسله إلى وزير الخارجية الأمريكي , وانه يفضل أن يشمل القرار إهداء المسلة إلى مدينة نيويورك , حتى لا تتعقد المسألة عندهم في أمريكا ويحتاج الأمر إلى صدور قرار من الكونجرس لقبول الهدية .
وأخبره رئيس الوزراء انه يجب عليه ان يكتب مذكرة يوضح فيها ما يريده بالضبط , كما يوضح بها ان الولايات المتحدة الأمريكية ستتحمل نفقات نقلها . وبالفعل أعد القنصل المذكرة المطلوبة وتسلم الرد عليها في اليوم التالي .
وأذيع خبر الهدية المصرية إلى أمريكا في الصحف الإنجليزية فقط .
وبعد تسلم الرد وقبل أن يشرع الأمريكان في نقل المسلة , أقيل الخديوي إسماعيل عن العرش وعين بدلا منه نجله توفيق , وأعيد تشكيل الوزارة برئاسة رياض باشا , وبدأت عملية المعارضة لنقل المسلة تأخذ طريقها إلى مجلس الوزراء , كما بدأت بعض الصحف في أوروبا تعترض على عملية نقل المسلة , أما الصحف المحلية المصرية فإنها للأسف لم تعرف شيئا عن الموضوع .
غير ان الأمر كان قد قضي , وان معارضة صحف أوروبا لم تعد مجدية , وصدرت الموافقات من أعلي مستوي  .
وصدرت التعليمات والأوامر إلى السلطات المحلية في الإسكندرية بتسهيل مهمة القومندان جورنجز الذي سيتولى عملية نقل المسلة في أكتوبر عام 1879.
تم إعداد صندوق توضع فيه المسلة , وتجهيز باخرة , واعد حوض جاف في الميناء لتنقل خلاله المسلة إلى الباخرة .
وعلي الفور بدأ القومندان عمله ومعه اثنين من الخبراء الأمريكان , واعدت الإنشاءات التجهيزات اللازمة لعملية نزعها من مكانها وجعلها أفقية حتي يسهل تحريكها ونقلها , وأثناء عملية الخلع حدث عدة أخطاء , منها خطا في حساب نقاط الارتكاز , وخطأ في حساب الأوزان . أدت هذة الأخطاء إلى تأرجح المسلة ولكنها لم تسقط . 
استغرقت عملية نقل المسلة ثمانية شهور , وأبحرت يوم 12 يونيو 1880 .
وكتب القنصل الأمريكي في كتابه : انه لا يخالجنا شئ من الدهشة لمهارة المصريين القدماء , فإن أجمل مسلة تلك التي أقيمت عند معبد الكرنك . وان هذة المسلة قد صنعت ونقلت من مرقدها في أسوان إلى الأقصر في سبعة أشهر فقط .