رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

د. ميلاد حنا يكتب: مصر يجب أن تتحول إلى متحف مفتوح لحضاراتها السبع

ميلاد حنا
ميلاد حنا

نبوءة ميلاد حنا التى تحققت كان الدكتور ميلاد حنا «١٩٢٤-٢٠١٢» آخر العنقود فى جيل الليبرالية المصرية.. درس الهندسة فى جامعة القاهرة وسافر لإنجلترا ليكمل دراسته، وعاد فى ١٩٥٠ بعد أن احتك بالعالم ورأى كيف يرانا الغرب وكيف نرى الغرب.. جمع بين العمل كأستاذ فى الهندسة وخبير إنشاءات وبين الكتابة والعمل العام، وشغل نفسه بقضية هوية مصر وكتب عدة كتب فى هذا المجال.. وفى عام ١٩٩٠ كتب كتابه «الأعمدة السبعة للشخصية المصرية» مستلهمًا آية من الكتاب المقدس تقول إن الحكمة عندما بنت لها بيتًا شيدته على سبعة أعمدة.. فى مقدمته لهذا الكتاب الذى احتفى به منتدى شباب العالم فى دورته عام ٢٠١٨ يروى ميلاد حنا عن لقائه بأستاذ مصريات سويدى مرموق قال له فى عام ١٩٨٥ بعد حديث عن عظمة الحضارة المصرية «إننى وبنوع من الخيال أتصور أن القاهرة ستتحول فى القرن المقبل (حاليًا يعنى) لكى تصبح متحفًا عالميًا يجد فيه الزائرون كل رقائق الحضارات المتعاقبة من الفرعونية إلى مصر الحديثة».. ويقول ميلاد حنا إن هذه العبارة ظلت فى وجدانه ودفعته لتأليف كتابه.. وما يدعو للأمل أن نبوءة الأستاذ السويدى وأمنية ميلاد حنا تتحقق حاليًا.. وما مشاريع مثل تطوير القاهرة الفاطمية والخديوية والمتحف المصرى الكبير وغيرها سوى تحقيق لهذه النبوءة التى ستصبح واقعًا خلال أعوام قليلة بإذن الله.. ويتحدث ميلاد حنا أيضًا عن زيارة أخرى دفعته لتأليف الكتاب، هى زيارته إلى الصين وكيف وجد أن الحضارة الصينية لم تنقطع خلال ستة آلاف عام، وأن الصينين ما زالوا يتحدثون نفس لغة أجدادهم منذ آلاف السنين عكس وضع المصريين الذين تراكمت على أرضهم رقائق حضارية مختلفة.. يبقى فى النهاية أن ما يطرحه د. ميلاد حنا من ضرورة الاستفادة برقائق الحضارة المصرية ليس ترفًا فكريًا.. لكنه وثيق الصلة بالتنمية، فوعينا بجذورنا الفرعونية يدفعنا للتميز، ووعينا بجذورنا الهيلينية يدفعنا للانفتاح على أوروبا، وعلاقتنا بإفريقيا تفتح لنا أسواقًا لمنتجاتنا.. وهكذا.. رحم الله ميلاد حنا ونفعنا بعلمه وبحبه لبلده، وجعل لنا فيه قدوة صالحة للتفكير المستمر فى خير هذا البلد والحلم من أجله مهما كانت الصعاب والمعوقات. 

                                                                                                                                             وائل لطفي

منذ أكثر من عشر سنوات، كنت فى زيارة شبه رسمية إلى السويد کرئیس لجمعية الصداقة المصرية السويدية، وبدعوة من الجمعية الشقيقة المقابلة فى استكهولم.

وفى اجتماع ودى للجمعيتين تبادلنا الكلمات توطيدًا للصداقة بين البلدين، فوجدتها فرصة جيدة لأن أبدى إعجابى بما قامت به بلدية استكهولم، عندما قررت أن تخصص إحدى جزرها «واسمها اسکانسن» لكى تكون فى جملتها تصويرًا ومتحفًا حيًا ومفتوحًا، بصور نمط الحياة فى السويد فى القرن التاسع عشر وما قبلها بقليل، وخصصوا لذلك اعتمادات مالية وكونوا لجانًا فنية متخصصة طافت أنحاء البلاد لكى تشترى وتجمع ما تبقى من مبانٍ خشبية قابلة للنقل، وتصلح لأن تجمع وتنسق بعضها بجوار بعض، بحيث تتصور بالفعل وأنت تجوبها وكأنك قد انتقلت إلى قرن مضى، وتعيش حياتك داخل قرية سويدية تقليدية.

علی أی حال، أنهيت كلمتى بإبداء إعجابى بفكرة إنشاء المتحف المفتوح لجزيرة «اسكانسن» والذى ينقل رسالة مهمة هادئة إلى أطفال وشباب السويد الذين يعيشون هذا المستوى العالى من المعيشة، ويتمتعون بكل منجزات العصر والتكنولوجيا الحديثة، ثم يجىء متحف اسكانسن لكى يصور لهم المعاناة التى عاشها جدودهم فى البرد والصقيع حتى تصل إليهم هذه الحضارة التى تتقدم يومًا بعد يوم.

قال رئيس الجمعية المقابل لى الدكتور شتین فانتر نانج ستيد، ورغب فى أن يرد التحية بأبلغ منها، وقد كنت أعلم أنه أستاذ الآثار المصرية القديمة فى جامعة أوبسالا الشهيرة والعريقة وخطب فى رشاقة قائلًا:

إذا كنت تمتدح تصرفنا لأننا نبرز لأولادنا تراث السويد فى القرن التاسع عشر، فإننى أشعر بالعجز والقصور عندما أقارن تاريخ وحضارة مصر بتاريخ وحضارة السويد، فبلادنا لا يزيد تاريخها المدون والمعروف على نحو ألف عام، وكان ذلك عندما غزا «الفايكنج» السويد لكى يأخذوا منها ومن روسيا الفراء ويصطادوا بعض العبيد لكى يباعوا فى أسواق روما وبيزنطة وبلدان الشرق الأوسط.

أما مصر- وقد تجولت فيها كثيرًا- فهى بحق متحف العالم وأقدم حضارة مدونة عرفتها البشرية ونعتبرها هنا متحف العالم كله، لأنها تكون بالفعل سلسلة من الرقائق الحضارية بعضها فوق بعض Layer sof Civilisations on top of each other

لقد زرت مدن الأقصر وتل العمارنة ومنف وسقارة ودندرة وكوم أمبو وإدفو وغيرها، ورأيت هذا الكم الهائل من الآثار والذى لا يوجد له مثيل فى أى بلد آخر، فهذه تراکمات آلاف السنين لحضارة الفراعنة وما بعدها فى الحقبة اليونانية- الرومانية، ثم زرت بعض الأديرة فى وادى النطرون، وزرت الكنيسة المعلقة والمتحف القبطى فى منطقة مصر القديمة بالقاهرة، وأعرف فضل مصر على المسيحية، وكيف أن بعض الرهبان من مصر قد وصلوا إلى سويسرا وإلى فنلندا، وأخيرا أراكم تعيشون مع الآثار الإسلامية الآن فى القاهرة الفاطمية، فهناك جامع عمرو بن العاص وجامع ابن طولون والأزهر والغورية والمتحف الإسلامى.

وختم كلمته ملخصًا:

«إننی- وبنوع من الخيال- أتصور أن القاهرة ستتحول فى القرن القادم- مثلما أصبحت اسکانسن متحفًا مرموقًا- لكى تصبح متحفًا عالميًا يجد فيه الزائرون كل رقائق الحضارات المتعاقبة من الفرعونية إلى مصر الحديثة».

حُفرت هذه العبارات فى وجدانی واختزنتها فى عقلى وقلبى، وظللت بعدها لا أمل عن أن أردد عبارة «أن مصر رقائق من الحضارات».

حفزنى ذلك على قراءة كتب التاريخ حتى أتعرف- أنا المصرى- على تفاصيل ما يعرفه الأجانب من هذه الرقائق المتتالية من الحضارة والتاريخ والفن، غير أن ما كان يشغلنى ليس التاريخ والماضى ولكن المستقبل- لأهلى وبلادى- ولذا كنت أتأمل أثر هذه الرقائق من الحضارات على التركيبة النفسية وشخصية المصرى المعاصر، وكيف أنه وإن بدا أميًا أو بملابس رقيقة الحال، ولكنه يحمل بين ضلوعه وعلى كتفيه هذه الآلاف من السنين.

هذه واقعة.. أما الواقعية الثانية فكانت فى الصين.

فى عام ١٩٨٥- وعندما كنت رئيسًا للجنة الإسكان فى مجلس الشعب- دعيت فى زيارة رسمية لكل من اليابان والصين، وكان هدف الرئيسى- غير المعلن هو التعرف عن قرب على الشخصية الصينية واليابانية، فقد تعرفت على بعض منهم فى مصر ورغبت فى أن أرى المنبع : الفكر- الثقافة- الديانة- القيم- التركيبة الإنسانية والاجتماعية، وذلك لأننا فى مصر نقرأ الأوروبى والأمریکی کالکتاب المفتوح، وذلك لأن أوروبا قد أخذت من حضارة حوض البحر الأبيض المتوسط ومن دياناته الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، ثم أخذت أمريكا عن أوروبا التراث والحضارة والتركيبة الإنسانية واللغة. ولذلك عندما نتكلم مع الأوربيين والأمريكيين نشعر بالتجاوب لأن مفاتيح الشخصية الأوروبية مفهومة أو مفتوحة حضاريًا على مفاتيح الشخصية المصرية، وإذا اضطرتنا الظروف- لصعوبة معرفة اللغة- أن نتفاهم بالإشارة أو ما يسمونه «لغة العيون» فإن المعنى والمقصود يصل على أى حال، وإن كان ببعض الصعوبة.

عندما ذهبت إلى اليابان انبهرت بالإنجازات التكنولوجية والعمرانية التى شاهدتها وتصورت أنها ستتجاوز أوروبا وأمريكا قريبًا، ولكن ظل السر کامنًا فى أن الشخصية اليابانية لا تلهث وراء محاكاة الشخصية الأوروبية أو الأمريكية، وربما كانت تحمل لكل من أمريكا أو أوروبا بعض الحقد أو الغيرة أو العداء، وكان واضحًا أن الديانتين «البوذية» و«الشنتو» قد ساهمتا ضمن عوامل أخرى فى تكوين الشخصية اليابانية المنضبطة والملتزمة والصبورة، والتى تعمل فى صمت وتماسك وولاء للعمل الذى يصل إلى حد العبادة وفى الرغبة فى تحويل هذه الأرض إلى جنة، ولذلك فهم يؤمنون بتناسخ الأرواح بديلًا عن الخلود بعد الموت.

عبرت إلى الصين، فإذا بى فى عالم آخر مختلف، وأدركت فورًا أنه مثل مصرنا جزء من العالم الثالث، وأن الشخصية الصينية لديها- مثل الشخصية المصرية- عقدة الكبرياء، لأنهم يدركون أنهم أقدم حضارة فى الشرق الأقصى ولهم تأثيرهم فيها حضاريًا وسياسيًا وثقافيًا، ولهم بصمات بدرجات متفاوتة فى كل بلدان المنطقة من اليابان شمالًا إلى تايلاند وكمبوتشيا جنوبًا، ولكن لديهم أيضًا عقدة النقص مثلنا، لأنهم يعرفون أن أمامهم شوطًا كبيرًا لرفع مستوى المعيشة، وبالكاد حققوا الغذاء والتعليم للجميع، والآن يودون تحقيق مسکن صحی مستقل لكل أسرة، ولن يحققوا ذلك قبل عشرين عامًا.

دعونی لزيارة مقابر عائلة أو أسرة مينج Ming Dynasty (١٤٠٩ - ١٦٤٤م) والتى كانت تحكم الصين فى مطلع القرن الخامس عشر الميلادى، وتقع هذه المجموعة من المقابر على بعد خمسين كيلومترًا فى اتجاه الشمال الغربى من العاصمة بكين ويسمونها «مقبرة الـ١٣ إمبراطورًا»، وعندما نزلت إلى المقبرة ذاتها، وجدت نفسى أربط بينها وبين مجموعة مقابر الملوك بالبر الغربى بمدينة الأقصر، وكيف أن كلًا منهما منحوت فى قلب الجبل واستغرق نحتها عشرات السنين، وكان منظر الحجرة الجنائزية والتابوت من الحجر متماثلًا فى مصر والصين إلى حد كبير. على أن ما شد نظری- وذكرت ذلك فورًا لمرافقتى- كيف أن لدينا فى مصر ما يسمى «طريق الكباش» بين معبد الأقصر ومعبد الكرنك فى البر الشرقى، فإذا بى أجد طريقًا مماثلًا من البوابة الرئيسية يوصل إلى مقابر أسرة مينج، حيث أنشأوا على جانبى الطريق تماثيل لبعض الحيوانات المشهورة لديهم مثل الجمل والفيل والزرافة وغيرها.

ولذلك لم أستطع أن أمنع خیالی، منذ رحلة العودة من هذه المقابر الصينية وإلى الآن، من أن أربط بين تاريخ الصين وتاريخ مصر، وكثيرًا ما كنت أجرى حوارات مع الرفيق تشنج، المستشار الثقافى السابق للسفارة بالقاهرة، حول حتمية وجود علاقة ما بين حضارة مصر وحضارة الصين، وفى تقديرى- أو بمعنى أدق- فى تخمینی- فإن أسرة مينج لا بد وأن تكون قد سمعت عن مقابر المصريين القدماء و«طريق الكباش».. وهذا- على أى حال- مجال بحث أكاديمى لم أسمع أنه اقتُحم حتى الآن.

وكنت أُدعى إلى ولائم العشاء الشهيرة حيث تقدم عشرات من الأطباق الصينية الصغيرة المعتادة وكلها مأكولات- أغلبها من السمك- مقطعة إلى أحجام صغيرة تناسب التعامل بها ومعها بعودین رفيعين خاصين من الخشب، وكأنها الشوكة، إذ تحتضنها من الجانبين فى رشاقة تحتاج إلى مران وتعود لتصل من الطبق إلى الفم مباشرة- وخلال الوقت الطويل الممتد للمأدبة، يكون السمر والحديث، وغالبًا ما يكون لديك الوقت للتفكير أثناء الترجمة من الصينية إلى العربية وبالعكس، ولم أجد أفضل من أن أعبر عن وجدانى فيما يتعلق بكل من حضارتی مصر والصين وكيف أنهما من أقدم الحضارات الزراعية المعروفة والمدونة على ظهر البسيطة، وإن كان هناك اتفاق على أن حضارة مصر أقدم وأكثر أثرًا وآثارًا!.

ومن خلال الحوار مع المضيفين، أدركت أن الحضارة المصرية تختلف عن حضارة الصين من حيث أن حضارة الصين- وقد امتدت لآلاف السنين- محتفظة بنفس اللغة والعقيدة الدينية والتى ترتكز على كل من «البوذية» وتعاليم «كونفوشيوس»، فاللغة الصينية قد احتفظت نطقًا وكتابة بذات اللغة القديمة التى بدأت منذ نحو ستة آلاف سنة.

وعلى ذلك فالصين رقيقة واحدة سميكة من الحضارة بنفس اللغة ونفس الدين عبر آلاف السنين هى عمر حضارة الصين بكل ما تشمل من سنوات الازدهار والاضمحلال، وعلى هذا فالخلاف بين مصر والصين هو أن لدى الصين رقيقة واحدة ضخمة من الحضارة المتصلة، بينما مصر لديها رقائق حضارية مختلفة ومتباينة ولكنها أيضًا مستمرة ومتصلة وهى التى كونت فى تتاليها الشخصية المصرية الحالية كما نعرفها.

وقد أدى ذلك التاريخ الطويل إلى أن مصر قد غيرت لغتها وديانتها ثلاث مرات عبر التاريخ المدون.

كانت عقيدتنا الدينية مبنية على أساطير قدماء المصريين، والتى جعلت الحياة بعد الموت على نمط العالم الأرضى، ويستعد لذلك بالطعام وبمتاع هذا العالم كما كانوا يعرفونه فى ذلك الوقت، ويعمل على أن يحفظ الجسد من العطب بالتحنيط لأنه الجسد الذى سيعيش به بعد البعث، وكونوا «المؤسسة الدينية» من كهنة الإله آمون أو سواه لكى تكرس أسطورة أن «فرعون» هو ممثل الإله على الأرض.

وينقسم المجتمع إلى فئات حاكمة هى: الملك فرعون والأمراء الذين يحكمون الأقاليم، ومعهم الكهنة الذين يكونون «المؤسسة الدينية» ويحافظون على تراث الأساطير.

ومن خلال كل ذلك تكونت حضارة هائلة امتدت من الملك مينا «عام ٣١٠٠ ق. م» إلى أن دخل الإسكندر مصر عام ٣٣٢ ق. م، وهى حقبة طويلة غنية بالأحداث والآثار والمراحل المختلفة، وكانت لغة المصريين القدماء هى اللغة المصرية القديمة، ولكنها تكتب بأشكال ثلاثة هى: الهيروغليفية برموزها المشهورة وتعنی اللغة المقدسة والتى تحولت إلى أبجدية فيما بعد، ثم أمكن تبسيطها للكتابة فظهرت الهيراطيقية كأسلوب كتابة أبسط بدلًا من الهيروغليفية ويستخدمها الحكماء والكهنة، وأخيرًا وفى نحو عام ٦٥٠ ق. م ابتكروا طريقة كتابة أخرى أكثر يسرًا وهى لغة الشعب، وأسماها اليونانيون لذلك بالديموطيقية وهى أسلوب الكتابة المتعارف عليه فى التعاملات والعقود والخطابات وغير ذلك وظلت الديموطيقية حتى عام ٣٥٠ م.

ومع دخول الإسكندر دخلت معه مصر فى مرحلة جديدة، كانت فى أولها مرتبطة باليونان ثم تحول ارتباطها بعد ذلك إلى الرومان، ومن ثم تسمى بالمرحلة «اليونانية الرومانية». كانت اللغة اليونانية قد فرضت نفسها لتكون لغة الدولة والمكاتبات الرسمية ولذلك حاول بعض المصريين تعلمها ليحتفظوا بالوظائف الحكومية، أما عامة الشعب فقد استمروا فى استخدام الكتابة بالديموطيقية، وهكذا تحول المصريون تدريجيًا إلى اللغة القبطية بأن كتبوا اللغة المصرية القديمة كما ينطقونها، بحروف يونانية، ولما لم تسعفهم الأبجدية اليونانية وحدها استعاروا من الكتابة الديموطيقية سبعة حروف لكى يتمكنوا من كتابة ونطق لغتهم المصرية كما يبغون. ومن الطبيعى أن تتأثر اللغة القبطية بكثير من ألفاظ ومعانٍ موجودة فى اللغة اليونانية.

وقد تصادف بعد دخول الإسكندر مصر بنحو ثلاثة قرون ونصف أن دخلت المسيحية مصر فى عهدها الأول، وسارع المصريون للإيمان بها ليتخلصوا من الاحتلال اليونانى ومن بعده الرومانى، إذ كانوا موضع اضطهاد شديد من أجل عقيدتهم الجديدة حتى استشهد منهم كثيرون فغيروا التقويم المصرى القديم وبدأوا به تقويمًا جديدًا أسموه «تقويم الشهداء» أو «التقويم القبطی»، فبدأت بذلك حقبة حضارية جديدة هى العصر القبطى، والذى يتسم بتغيير الدين إلى المسيحية وتغيير اللغة إلى القبطية، وكان له طابع مميز من الفن والأدب والفكر والحضارة والعلاقات الإنسانية والقيم.

وفى القرن السابع دخل العرب إلى مصر فى ظروف خاصة غير متكررة، إذ لم يتم الغزو بحد السيف، بل رحب المصريون بالعرب كجزء من الخلاص فى «عهد الاضطهاد العظيم»، والذى كان قد سَنَّه «هرقل» إمبراطور الرومان لإخضاع المصريين لعقيدة ومذهب مسيحى يختلف عن المذهب الأرثوذكسى الذى تمسكوا وناضلوا فى سبيل الاحتفاظ به.

وأخذ تحول المصريين من اللغة القبطية إلى اللغة العربية عدة قرون، لأن المصريين جميعًا كانت لهم عبر العصور المختلفة لغة واحدة وعقيدة واحدة، وأخذ المصريون لكى يتحول غالبية منهم إلى الإسلام خمسة أو ستة قرون، ولكن ظلت فى مصر- ولأسباب وظروف مختلفة- أقلية آثرت البقاء على ديانتها المسيحية، واستمرت الديانتان معًا إلى الآن وبأغلبية إسلامية وأقلية مسيحية، ولكن بشعب واحد له نفس التركيبة الأنثروبولوجية ونفس مقاسات الجمجمة ونفس الثقافة والحضارة وذات اللغة واللهجة.

وهكذا تكون مصر قد تراكمت لديها الرقيقة الرابعة والأخيرة، حيث غيرت لغتها إلى العربية وغيرت ديانة أغلبها إلى الإسلام.

وإذا كان لدى مصر هذه الرقائق الأربع من حضارات مستمرة ومتصلة ومتتالية، فإن لمصر أيضًا بحكم موقعها الجغرافى مميزات أخرى أثرت فى الشخصية المصرية، لعل أهمها هو انتماء مصر إلى العالم العربى لأن مصر بدون العرب تتحول إلى دولة من الدرجة الثالثة أو الرابعة، كما تأكد أن العرب متفرقون وليس لهم «خربوش» بدون مصر ولذا فإن فاعلية وانتماء مصر إلى العالم العربى قدر ومصير.

وانتماء مصر الجغرافى إلى مجموعة دول حوض البحر الأبيض المتوسط، ليست مسألة تاريخية فحسب منذ الحقبة اليونانية- الرومانية، ولكنها صلة ممتدة ومستمرة إلى الآن. وهناك مفكرون كثيرون يعتزون بهذا الانتماء ويغذونه ویرون فيه «نهضة مصر» من أمثال رفاعة الطهطاوى وأحمد لطفى السيد وطه حسين، ولكن الخطأ التاريخی يكمن فى أن يوضع هذا الانتماء کبدیل وفى مواجهة الانتماء العربى، والفكرة المحورية فى هذا الكتاب تكمن فى تكامل هذا الانتماءات فى سيمفونية واحدة.

وأخيرًا وليس آخرًا يأتى العمود السابع وهو انتماء مصر إلى إفريقيا والذى أراه ليس فقط انتماءً جغرافيًا، ولكنه بالنسبة لمصر هو أحد السبل لحل مشاكل مصر فى المستقبل، وبالذات فى كل ما يتعلق بالانفجار السكانى والنمو الاقتصادى، إذ إن السوق العربية للعمالة المصرية فى سبيلها الى التشبع، ولكن تحويل نظام التعليم فى مصر ليؤهل المهنيين والعمال للعمل فى إفريقيا هو المخرج فى القرن القادم.

إن اعتقادى هو أن هذه الانتماءات أو الأعمدة السبعة داخلة فى التركيبة الإنسانية لكل مصرى، ولكنها- منطقيًا وطبيعيًا- ليست أعمدة متساوية فى الطول والقطر والمتانة، وإن إحساس المصرى بهذه الانتماءات يختلف من شخص إلى آخر، بل يختلف داخل نفس الفرد من مرحلة إلى أخرى.. فلدى البعض منا إحساس بأهمية الانتماء إلى الفراعنة.. ويشعر هؤلاء أن ذلك يميزنا عن المجتمعات الإنسانية الأخرى.

وقد يرى البعض أن الانتماء العربى هو الأساس، ولا ينبغى أن ننمى الانتماء الفرعونى لأن ذلك يضعف حيوية وفاعلية وأهداف «القومية العربية»، وقد لمست ذلك فى حوارات مع أصدقائى من «القوميين العرب» سواء كانوا مصريين أو عرب.

ومن المؤكد أن المتدينين يؤثرون ويقدمون الانتماء الدینی- سواء الإسلام أو المسيحية- على أى انتماء آخر، وهذه هى سمة المرحلة الحالية من تاريخ المنطقة، وما محاولتى فى هذا الكتاب إلا لنشر فكرة أن هناك انتماءات أخرى لدى المصرى ينبغى أن يسعد ويعتز بها، لعل ذلك يعطى الانتماء الدينى حجمه المتوازن.

وأعرف الكثيرين ممن يقاومون انتماء مصر إلى حوض البحر المتوسط من منطلق أن ذلك يؤدى إلى التغريب، أى تقريب مصر من الغرب وحضارته، وبالتالى يُضعف من الهوية المصرية الوطنية، ولا يتمسكون ولا يتحمسون غالبًا إلا للعامودين العربى والإسلامى.. غير مدركين أن الأعمدة السبعة كلها داخلة فى تكوينهم النفسى والحضارى حتى وإن كانت هذه الأعمدة الأخرى باهتة أو هزيلة.

وأتصور أن الأعمدة، أى الانتماءات، التى لا تجد من يتحمس لها أو عليها.. هما: العامود «اليونانى- الرومانی» وكذلك العامود «الإفريقى».

وهناك تداخل تاریخی واضح بين الحقبة «اليونانية- الرومانية» والحقبة «القبطية».

ولعل تغيير الدين إلى المسيحية، واللغة إلى القبطية هما الفيصل فى بداية الحقبة القبطية.. وسيأتى تفاصيل ذلك فيما بعد.

أما الانتماء إلى قارة إفريقيا- وهو انتماء لا يخص الماضى فحسب وإنما يخص المستقبل أيضا- فهو انتماء ليس له صاحب، وليس له من يدافع عنه، وإن كان جمال عبدالناصر هو أول من أشار واهتم به، فقد جاء ذكر ذلك فى كتابه «فلسفة الثورة»، والواقع هو أن كافة بلدان إفريقيا سعيدة بانتماء مصر إلى إفريقيا.

خلاصة القول: هو أن هذه الانتماءات السبعة للشخصية المصرية رغم تواجدها فى كل منا بقدر أو بآخر، ولكن كلًا منا يفضل هذا الانتماء على ذلك وفق ظروف النشأة والتركيبة النفسية والمستوى الثقافى والحضارى والانتماء الأيديولوجى، ومن المؤكد أن كل مسلم يعتز بالعامود الإسلامى، ولكنه لا يدرك أنه يحمل بين ضلوعه قدرًا من «العامود القبطى» بحكم التواجد والمعاشرة والتداخل بين البشر.. كما أن كل قبطى يعتز «بالعامود القبطى» وغالبًا ما يعتز تلقائيًا وبسبب التراث والامتداد التاريخى «بالعامود الفرعونى» ولكنه لا يدرك أنه يحمل بين ضلوعه قدرًا من «العامود الإسلامی» وأنه يستخدم بالفعل الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث فى مجری کلامة العادى كل يوم كما أنه بالضرورة متأثر بها.. ولعل هذا هو سر استمرار المسيحية والإسلام على أرض مصر.

وقد حاولت أن أستشف السر وراء فتور الإحساس بالفرعونية لدى كثيرين، ولم أعرف كنه ذلك إلا من خلال حوار شاركت فيه عندما قمت مع الأستاذ محمد حسنین هیکل بزيارة البابا شنودة الثالث لمناسبة عيد الميلاد فى يناير ١٩٨٩، فقد استفسر الأستاذ هيكل عن سبب عدم ذكر اسم فرعون الذى كان يحكم مصر وقت خروج بنى إسرائيل منها فى كل من الإنجيل والقرآن، فأجاب البابا بذكاء: لقد كان هذا الفرعون «غليظ القلب» ونحن فى لغتنا الدارجة نقول: «اللى ما يتسماش، ليس لأنه لا يحمل اسمًا ولكن ذلك يحمل ضمنيًا عدم الحب أو التقدير وبالتالى ينكر الاسم، ولكن ذلك كان قاصرًا على ذلك الفرعون الذى كان معاصرًا لتلك الفترة وحدها، على ما ذكر من آيات قرآنية فى تلك الواقعة بالذات قد ألقى بظلاله على امتداد حكم الفراعنة، وأتصور أن كراهية اليهود لفرعون الذى طردهم من دياره- وقد سجلوها فى سفر الخروج من العهد القديم- قد رسمت صورة الفراعنة القدماء بشكل لا يدعو إلى الحب أو الاحترام.

وعندما أقارن بين هذه الصورة وصورة فرعون الملك والإله المحبوب من الشعب كما صورها بیرستد- فى كتابه المرجعی- فجر الضمير- أجد أن هناك فارقًا هائلًا بين صورة المجتمع وطبقاته وفئاته، كما يصورها لنا دارسو المصريات القديمة وبين الصورة التى نقلت إلينا من خلال الكتب الدينية، ولذلك فإننى أتصور أن اعتزاز المصريين جميعًا بالانتماء إلى الحقبة الفرعونية سوف يزداد وينمو، وذلك فى القرن القادم وعندما تنتهى آثار الحقبة الحالية.

ورغم حماسی واقتناعی- فى المرحلة الحالية- بهذه الأعمدة السبعة للشخصية المصرية، ولكننى لا أراها انتماءات أبدية، بل لعلها تتراكم مع الزمن ويضاف إليها انتماءات جديدة، وبنوع من الخيال، أتصور أن كاتبًا ينتمى إلى القرن الثانى والعشرين سوف يكتب فى عصر يسوده الفكر العلمى العلمانى العالمى، سوف يخلط الأحقاب والأزمنة ويعيد ترتيبًا بشكل مختلف.

أيًا ما يكون من أمر، فإن لكل عصر إفرازاته الفكرية التى تعبر فى الغالب عن واقع حضارى وفكرى معين ومن ثم فإننى أرى أن فكرة الأعمدة السبعة تناسب المرحلة التاريخية الحالية وتعبر عن واقعه من منطلق أنها تدفع به إلى الوفاق الوطنى وتجعل المصرى أكثر اعتزازًا بمصريته وبالتالى توفر له المناخ الإنسانى الذى يعبر به إلى آفاق أرحب فى القرن القادم.

كتاب «الأعمدة السبعة للشخصية المصرية» 1990