رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثلاثية التكفير والعزلة والحشيشية

حاولت السلطة السلجوقية، ودولة الخلافة العباسية، وفقهاء ومؤرخو أهل السنة والجماعة، رسم صورة ذات سمات محددة لتنظيم «الحشاشين» وشيخه «الحسن الصباح». وتتحدد أبرز هذه السمات فى: الزندقة «أى الإلحاد بالمصطلح المعاصر»، واعتزال الناس، وسيطرة الجهل على الأتباع، وخضوعهم لعمليات تخدير ممنهج ومنظم، والسمع والطاعة الذى يبديه الأتباع للقائد. 

تهمة الزندقة كانت من التهم المريحة الجاهزة فى ذلك العصر التى تسهل على السلطة أو الجهة أو الشخص اغتيال خصومه السياسيين معنويًا، وهى تهمة لا يخلو منها أيضًا الواقع المعاصر للخصومات السياسية داخل ديار المسلمين. فالزندقة تعنى فى الوجدان المسلم «إنكار الدين»، وهى من أقبح الصفات التى توجب ازدراء المجموع المسلم للشخص، حال اتهامه بها. 

يشير «ابن كثير» إلى أن الحسن الصباح «كان قد دخل مصر وتعلم من الزنادقة الذين بها»، وهو يقصد بالزنادقة فى هذا المقام: الشيعة الفاطميين من المؤمنين بالمذهب الشيعى «الإسماعيلى»، وكانوا يسيطرون حينذاك على مصر، ولا خلاف على أن من تعلم الزندقة- على حد وصف ابن كثير- وتكاثر الأتباع من حوله، لا بد أن يتحول إلى معلم للزندقة، بما تعنيه من معانى إنكار الدين والخبث والضلال والشرود عن الفهم الشائع للإسلام. وهى معان كفيلة بإثارة العامة على أى شخص أو جماعة بمجرد إلصاقها بها، خصوصًا إذا تردد الاتهام على لسان كبار الفقهاء والشيوخ، وعلى ألسنة أصحاب السلطة والسلطان. وقد كان السلاطين حريصين أشد الحرص على حشد العوام فى الحرب على «الحشاشين»، بل وإشراكهم فى غنائم الهجوم عليهم، وقد أشار «ابن كثير» إلى أن السلطان كان يحرض العوام على قتل الحشاشين.

ويعد «اعتزال» الناس سمة أخرى من سمات الصورة التى حاول أهل هذا العصر رسمها للحشاشين. فهم يلجأون إلى القلاع وشعاب الجبال فيما يشبه الهجرة، كمظهر من مظاهر رفضهم للمجتمع، وكفرهم السياسى أو العقائدى بما يدين به أهله. والتكفير– أيًا كان نوعه- لا بد أن تعقبه «عزلة» أو هجرة، وذلك ما قرره الحسن الصباح– كما يشير ابن كثير- حين تمدد من قلعة «ألموت» إلى الاستيلاء على مجموعة أخرى من القلاع المحيطة بها، وتحصن بها، وبدأ يعزل فيها أتباعه عن العالم ويدربهم ويعدهم للانقضاض على المجتمع الذى هاجروا منه وناصبوه العداء. وكان «تجهيل الأتباع» من السمات الأساسية للصورة السلبية للحشاشين، فأتباعهم يوصفون بالجهل والفراغ المعرفى الذى يجعلهم مرتعًا خصبًا للأفكار التى يبثها فيهم التنظيم. يقول «ابن كثير»: «إن (الصباح) كان لا يدعو إليه من الناس إلا غبيًا جاهلًا لا يعرف يمينه من شماله». ولا خلاف على أن تشويه التابع بهذه الصورة، ووصفه بأنه لا يعرف يمينه من شماله، يستهدف التقليل من قدرات القائد الذى يسيطر عليه ويوجهه، وأن خضوع التابع مرده الجهل والتغفيل، وليس عبقرية من يقوده. 

ومن اللافت فى سمات الصورة التى رسمها ابن كثير لـ«الحشاشين» تلك الإشارة إلى الأدوات التى كان يستخدمها «الصباح» فى السيطرة على أتباعه، من خلال إطعامهم العسل بالجوز، والشونيز «الحبة السوداء» حتى يحرف مزاجهم، وهى أدوات فى المجمل لا تؤدى إلى التخدير، لكن قد يكون لها تأثير إيجابى على استرخاء الأعصاب، وربما دعم ذلك أن «الصباح» كان يشفعها بالرقية، وبعض أعمال السحر، كما ينص «ابن كثير»، وهو يسقى المريد ويطعمه، حتى يتهيأ لقبول الخطاب «الحشيشى» الشيعى المنتصر لأهل البيت والإمام على بن أبى طالب. وتكون النتيجة المترتبة على ذلك هى الخضوع التام، والطاعة الكاملة من جانب المريد لشيخه وقائده، بحيث يمتثل لكل أوامره أيًا كانت، حتى ولو طلب منه أن ينحر نفسه بخنجر، أو أن يلقى بنفسه من أعلى جبل ليتردى منه، كما روى «ابن كثير»، وهى رواية لا تخلو من شطط، لكنها فى المجمل العام تؤشر إلى أن أتباع «الصباح» كانوا يطيعونه طاعة عمياء، حتى ولو كان فى هذه الطاعة هلاكهم.

وتحكى كتب التاريخ أن ثمن الدم كان يقبضه الحشاش إذا نفذ عملية الاغتيال المطلوبة ونجا من القتل بعدها، وإذا كانت الثانية وقُتل أو وقع فى الأسر كان المال يعطى لأسرته وورثته، لكن ذلك كله لم يشفع للحشاشين، إذ أُعملت فيهم يد القتل فى كل الاتجاهات، فبالغ السلطان «بيبرس» فى محاصرتهم ومطاردتهم فى سوريا، وارتكب المغول العديد من المذابح فى حقهم فى فارس. ولم يعد أمامهم سوى الهجرة والفرار، وترك القلاع والجبال والعيش بشكل سرى ومتخف وسط الناس، وكان ترك الحشاشين للقلاع والجبال إيذانًا بانتهاء رحلة حمل السلاح.

هاجر أغلب الحشاشين من بلاد فارس إلى الهند، وأصبح كل همهم المحافظة على حياتهم، والعيش كمواطنين مسالمين وسط غيرهم، وتركت الأجيال الجديدة منهم السياسة تمامًا، وبدأوا يتفرغون للأمور الاقتصادية، ويمارسون التجارة، وجنوا من وراء ذلك أرباحًا كثيرة، وبدلًا من الأئمة وكبار الفداوية بدأت تظهر أسماء العديد من الأغنياء بين أتباع الحشاشين. ومن ناحيتهم مارس الأغنياء بتصورات الأقلية التى تعيش فى قلب أغلبية تفوقها عددًا، وتجد أن الوسيلة الأبرز للقوة وللعيش بين الأغلبية هى المال. أما فقراء الحشاشين، فقد حاولوا ممارسة الدعوة بين فقراء الهند والدول الأخرى التى هاجروا إليها، لكنهم لم يتمكنوا من تحقيق إنجاز ذى قيمة على هذا المستوى، بعد أن فقدت الفكرة زخمها، وعدمت وجود قيادات قادرة ومؤثرة، مثل الحسن الصباح أو الشيخ «سنان»، تجمع بين الزعامتين السياسية والروحية. 

كانت أسماء بعض الأئمة تظهر من حين إلى آخر، لكنها بقيت فى الأول والآخر مجرد قيادات روحية، تبتعد قدر المستطاع عن ممارسة أى أنشطة سياسية. وانتقل مقر الإمامة «النزارية» من فارس بشكل نهائى عندما غادر الإمام النزارى حسن على شاه أرض أجداده، وانتقل إلى الهند، واستقر بين أتباعه الذين هاجروا إلى هناك، وأصبح لقبه الرسمى هو «الأغا خان»، وهو اللقب الذى حصل عليه من أحد ملوك الفرس، وأصبح «الأغا خان» بعد ذلك هو اللقب الرسمى لأئمة النزارية بعد «حسن على شاه». 

ومنذ ذلك الحين وحتى الآن أصبح أتباع الإسماعيلية النزارية يوصفون بأنهم «أتباع الأغا خان»، فى حين يطلق على «الإسماعيلية المستعلية» الموجودين الآن وصف «البهرة». وكلتا الفرقتين أبعد ما يكون عن العمل السياسى، فأغلب نشاطاتها اقتصادية وخيرية، وتهتم طائفة البهرة بترميم مساجد آل بيت النبى، صلى الله عليه وسلم، ورعايتها.