رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مهندس البروسترويكا.. الملاك الشرير

حظى ميخائيل جورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفيتي، باحترام كبير في الدول الغربية، فيما يأخذ عليه معظم الروس مساهمته في سقوط دولتهم، بدعوى محاولته إنقاذها بإصلاحات ديمقراطية واقتصادية، الأمر الذي وصفه الرئيس الحالي، فلاديمير بوتين، بأنه «أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين»، تسببت في انهيار قوة عظمى، كانت تتألف من خمس عشرة دولة، ومعه أيضاً الانهيار السياسي لجورباتشوف نفسه، وما أعقب ذلك من سنوات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.. ومع هذا، ظل جورباتشوف يحظى بتقدير دولي كبير بفضل دوره الحاسم في إنهاء الحرب الباردة بشكل سلمي؛ مما مكن من انهيار جدار برلين.. كما قاد الاتحاد السوفيتي إلى إبرام معاهدات تاريخية مع الولايات المتحدة بشأن نزع السلاح النووي.

وعلى المستوى الداخلي، قاد عمليات إصلاح شاملة بهدف بناء الديمقراطية، أهلته للحصول على جائزة نوبل للسلام، بسبب ما أسماه الغرب «إصلاحاته الشجاعة».. ليمكن القول، إجمالاً، إن «ميخائيل جورباتشوف غيّر العالم بشكل مختلف عما كان يريده»، كما علقت صحيفة «فرانكفورتر ألجماينه تسايتونج» على وفاة الزعيم السوفيتي السابق، مهندس «البروسترويكا»، عن عمر ناهز واحد وتسعين عاماً، والذي سيظل الألمان ممتنين له لأنه مكّن من توحيد بلدهم، الذي كان مقسماً إلى شطرين، بين المعسكرين الشرقي والغربي إبان الحرب الباردة، «نحن ممتنون لمساهمته الحاسمة في وحدة ألمانيا، ونحترم شجاعته في الانفتاح الديمقراطي وبناء الجسور بين الشرق والغرب».

وبينما حظي جورباتشوف بالاحترام في الغرب، عاش في روسيا بعيداً عن الأضواء منذ أن ترك السياسة.. ولعل ذروة التناقض هى أن «مهندس التقارب بين الشرق والغرب أثار الإعجاب في أوروبا، بينما كان موضع لامبالاة في وطنه الأم»، إن لم نقل الملامة والتأنيب.. فأي الوجهين كان جورباتشوف.. الملاك أم الشرير؟.

وصل جورباتشوف إلى السلطة في 1985، وكان يبلغ من العمر أربعة وخمسين عاماً فقط.. وبدأ سلسلة من الإصلاحات لبث حياة جديدة في البلاد التي كانت تعاني من الركود.. ويجادل الكثيرون بأن هذه الإصلاحات التي عرفت باسم «البروسترويكا» أو إعادة البناء والهيكلة، و«الجلاسنوست» أو الانفتاح وحرية التعبير، أدت إلى زوال البلاد.. ويقول آخرون إن الاتحاد السوفيتي كان غير قابل للاستمرار بسبب بنيته المتهالكة.. في ظل حديث عن تصورات- مُبالَغ فيها- عن التأثير الأمريكي في السياسة الدولية، على شيوع نظرية المؤامرة، التي تعتبر أن ما جرى كان نتيجة جهود المخابرات المركزية الأمريكية؟.. فأين الحقيقة؟.

تعالوا نلقي نظرة على الأسباب الكامنة وراء انهيار الاتحاد السوفيتي، التي كانت لها آثار عميقة على الطريقة التي ترى بها روسيا نفسها اليوم، وتتعامل بها مع بقية العالم الآن..  

- الانهيار الاقتصادي كان أكبر مشاكل الاتحاد السوفيتي.. كان اقتصاد البلاد مخططاً مركزياً على عكس اقتصادات السوق في معظم البلدان الأخرى.. كانت الدولة تقرر مقدار ما يجب إنتاجه من كل شىء «عدد السيارات أو أزواج الأحذية أو أرغفة الخبز».. كما كانت الدولة تحدد عدد هذه الأشياء التي يحتاجها كل مواطن، وكم يجب أن تكون كلفة كل شىء، وكم يجب أن يدفع الناس ثمناً لها.. نظرياً، كان يفترض أن يكون هذا النظام فعالاً وعادلاً، لكنه في الواقع كان بالكاد يعمل.. كان العرض دائماً أقل من الطلب، وكان المال غالباً بلا قيمة.. لم يكن الكثير من الناس في الاتحاد السوفيتي  فقراء تماماً، لكنهم ببساطة لم يتمكنوا من الحصول على السلع الأساسية، لأنه لم يكن هناك ما يكفي منها.. لم يتحدث الناس عن شراء شىء ما، لكن عن الحصول عليه .
وفي إطار سياسة «بروسترويكا» جورباتشوف، تم اعتماد بعض مبادئ السوق، لكن الاقتصاد السوفيتي العملاق كان عصياً على الإصلاح بسرعة.. ظلت السلع الاستهلاكية شحيحة، وارتفع معدل التضخم بشكل كبير.. أدخلت السلطات إصلاحاً نقدياً قضى على مدخرات ملايين الأشخاص، على الرغم من ضآلتها، لذلك ساد شعور قوي بالإحباط من سياسات الحكومة.

ـ كانت سياسة «الجلاسنوست»، التي انتهجها جورباتشوف، تهدف إلى السماح بقدر أكبر من حرية التعبير، في بلد قضى عقوداً في ظل نظام قمعي، حيث كان الناس خائفين جداً من الإفصاح عن أفكارهم أو طرح الأسئلة أو الشكوى.. شجع جورباتشوف على مناقشة مستقبل الاتحاد السوفيتي وهياكل سلطته، وكيفية إصلاحها للمضي قدماً، حتى إنه أثار فكرة التعددية الحزبية، متحدياً هيمنة الحزب الشيوعي.. وبدلاً من إدخال اصلاحات على النظام، إلا أن ما كشف عنه أرشيف الدولة دفع الكثيرين إلى الاعتقاد بأن النظام الذي يحكمه الحزب الشيوعي- حيث يتم تعيين جميع المسئولين الحكوميين أو انتخابهم من خلال انتخابات غير تنافسية- غير فعال وقمعي وعرضة للفساد.. حاولت حكومة جورباتشوف، على وجه السرعة، إدخال بعض عناصر الحرية والعدالة في العملية الانتخابية، لكن الأوان كان قد فات.

ـ كان الاتحاد السوفيتي دولة متعددة القوميات ووريثة الإمبراطورية الروسية.. كان يتألف من خمس عشرة جمهورية، تتمتع نظرياً بحقوق متساوية كأمم شقيقة.. على أرض الواقع، كانت روسيا هي الأكبر والأقوى إلى حد بعيد، وسيطرت اللغة والثقافة الروسية في العديد من المجالات.. سمحت سياسة «الجلاسنوست» لأبناء العديد من الجمهوريات الأخرى بمعرفة القمع القومي الذي تعرضت له سابقاً، مثل المجاعة الأوكرانية في ثلاثينيات القرن الماضي، والاستيلاء على دول البلطيق وغرب أوكرانيا بموجب اتفاقية الصداقة السوفيتية النازية، والترحيل القسري للعديد من المجموعات العرقية خلال الحرب العالمية الثانية.. أدت هذه الأحداث، والعديد من الأحداث الأخرى، إلى تعزير النزعة القومية والمطالبة بتقرير المصير.

ـ كان يُقال للمواطن السوفيتي، لعقود، إن الغرب «مُتعفن»، وإن المواطن الغربي يعاني من الفقر والمهانة في ظل الحكومات الرأسمالية.. تعرضت هذه المقولة للتشكيك المتزايد أواخر الثمانينيات، عندما نما السفر والاتصال المباشر بين الناس العاديين.. تبين للمواطنين السوفيت أن مستوى المعيشة والحرية الشخصية ودولة الرفاهية في العديد من البلدان الأخرى يتجاوز إلى حد بعيد تلك الموجودة في بلدهم.. كما تمكنوا من رؤية ما حاولت سلطات بلادهم إخفاءه عنهم لسنوات، من خلال حظر السفر الدولي والتشويش على المحطات الإذاعية الأجنبية، وفرض الرقابة على أي أدب أو أفلام أجنبية تدخل الاتحاد السوفيتي.

ـ أدرك جورباتشوف أن هناك حاجة إلى التغيير الجذري، لوقف المزيد من التدهور في الاقتصاد السوفيتي والروح المعنوية العامة، لكن رؤيته لكيفية تحقيق ذلك ربما كانت تفتقر إلى الوضوح.. من خلال إنهاء الحرب الباردة، أصبح بطلاً لدى العالم الخارجي، ولكن في الداخل تعرض لانتقادات من قبل الإصلاحيين، الذين شعروا بأنه لم يستغل زمام المبادرة جيداً، ومن قبل المحافظين، الذين شعروا بأنه ذهب بعيداً في إصلاحاته.. ونتيجة لذلك أقصى كلا المعسكرين.

ـ نفذ المحافظون انقلاباً فاشلاً في أغسطس 1991، لإزاحة جورباتشوف عن السلطة.. وبدلاً من إنقاذ الاتحاد السوفيتي، عجلت محاولة الانقلاب الفاشلة بزواله.. بعد أقل من ثلاثة أيام، حاول قادة الانقلاب الفرار من البلاد، وعاد جورباتشوف إلى السلطة، ولكن لفترة وجيزة فقط.. برز خلالها على الساحة قادة سياسيون، أمثال بوريس يلتسين في روسيا، وزعماء في الجمهوريات السوفيتية السابقة.. في الأشهر التالية، أجرت العديد من الجمهوريات استفتاءات خاصة بالاستقلال، وبحلول ديسمبر، واجهت الدولة العظمى مصيرها المحتوم.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.

[email protected]