رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أقوى وأرخص مساحيق غسل جرائم التاريخ.. الدين!

(1)

التاريخ السياسى الملوث بالدماء!

التاريخ السياسى المدون للإنسان يضج بالحروب وسفك الدماء، وسيظل كذلك ما بقى الإنسان فوق هذه الأرض. لكن هناك منطقة داخل الإنسان – فردا أو أمة - دائما ما تدفعه للبحث الدءوب عن مساحيق لتجميل وجهه، وغسل تاريخه وزحزحة جرائمه من خانة الجرائم إلى قائمة أعمال المُثل العليا!

ورغم معرفة الإنسان القديم لفكرة الدين، فقد اختلفت الشعوب فى درجة وعيها وصياغة عقائدها حسب ظروف كثيرة، لكننا – بمقارنة تلك الحضارات القديمة بالأخرى الأحدث منها – نفاجأ بنتيجة بحثية صادمة. أن الشعوب القديمة والحضارات القديمة لم تلجأ للدين لغسل جرائمها بنفس درجة كثافة لجوء مَن نطلق عليهم أتباع الديانات السماوية أو الإبراهيمية (اليهودية – المسيحية –الإسلام)!

النصوص والوثائق القديمة - والتى تعتبر المعبر الرسمى والكاشف لنوع المسحوق المستخدم عند الحاجة لذلك - تخبرنا أن الشعوب القديمة كانت أكثر صدقا ووضوحا ولم تلجأ كثيرا للمساحيق، بل عبرت عن رغباتها ودوافعها وقيمها وأحيانا أطماعها بشكلٍ يقرب من الصراحة المطلقة دون أن تهتم بعملية التجميل أو غسل التاريخ!

(2)

القدماء أكثر صدقًا واتساقًا مع النفس!

فمن ناحية تحديد الأهداف التى صُنعت الأسلحة واستُخدمت من أجلها قديما، ومسببات الحروب، نجد فى حالة الحضارة المصرية القديمة أن تلك النصوص تحدثت عن أخطار هددت حدودها الشرقية وأدت لتكوين أول جيش مصرى نظامى. لذلك لم تكن فى حاجة إلى أى تبرير أخلاقى لأنها باختصار كانت تدافع عن نفسها وبقائها دفاعا مشروعا!

استمرت الحضارة المصرية على نفس المنوال الدفاعى لقرون طويلة ولم تغير من سياستها تلك إلا بعد تعرضها للاستعمار والإذلال فقررت أن تنتهج سياسة دفاعية متقدمة، وأيضا لم تلجأ لاستخدام أى مساحيق.. كانت صريحة وواضحة فى مئات النصوص العسكرية المترجمة.

أما الحضارات الأخرى التى اتسمت بالشراهة الدموية واجتياح جيرانها فى مشاهد اعتداء ونهب صريحة بمجرد امتلاكها القدرة العسكرية، ففى نصوص تلك الحضارات ووثائقها الرسمية، نجد النصوص تبدأ مباشرة بتمجيد القائد الطامع المعتدى ثم تفاصيل عمليات الاعتداء دون الالتفات إلى كتابة أى تبريرات لعمليات الغزو!

كان استخدام عبارات دينية فى مقدمة بعض النصوص من قبيل التبارك وطلب العون من الآلهة، ولم يكن لتبرير أن الغزو نفسه كان بناءً على أوامر من تلك الأرباب، رغم أن تلك الحضارات مثلا لجأت إلى استخدام فكرة (الوحى الإلهى) لمنح الحكم لأميرٍ بذاته دون باقى الأمراء، أو لمنح وظيفة كبرى لأحدٍ ما دون سواه، ورغم أن تلك الحضارات قد خصصت كثيرا من عوائد غزو جيرانها لخزائن الأرباب وتحت سيطرة رجال الدين، لكن الغزو ذاته لم يكن استجابة لأوامر دينية مقدسة أو تنفيذا لعقائد دينية مثلا لا يكتمل الإيمان دونها!

(3)

اليهود وجرائم تمت محاولة غسلها!

ثم نفاجأ بنقيض ذلك تماما فى تاريخ أتباع الديانات الإبراهيمة الثلاثة!

ففى تاريخ اليهود صفحات بالغة الدموية والوحشية استطاعوا ضرب أستار حديدية حولها فلم تتناولها الأعمال السينمائية أو التليفزيوينة أو تجد طريقها للذيوع والانتشار.  

نجد بعض تلك الصفحات حين نطالع تاريخ مصر فى العصرين اليونانى والرومانى حين كانت أعداد اليهود كبيرة فى مصر وليبيا ومختلف مستعمرات الإمبراطورية الرومانية. صفحة واحدة تكفى لكشف الحقيقة. حين اجتاح عشرات الآلاف من اليهود القادمين من ليبيا الأراضى المصرية ثم قاموا بارتكاب بمجازر وحشية رهيبة ضد المصريين بعد أن تغلبوا على الحاميات الرومانية 115م، 116م. كانت أعداد الضحايا عشرات الآلاف من الإغريق والمصريين المسيحيين. ولم يكن الأمر مجرد قتل، إنما كان ممارسات وحشية غير مسبوقة شملت أكل لحوم الضحايا وتلطيخ الوجوه بدمائهم!

كان خلف تلك الجرائم فكرة دينية يهودية هى انتظار المخلص اليهودى الذى سيمنح اليهود حكم العالم. هذه إرادة الله كما يعتقدون، وكل الجرائم التى اُرتكبت إنما كانت أعمالا يتقربون بها إليه!

ومثال آخر حديث، ممارسات العصابات الصهيونية ضد الفلسطينيين منذ 1917م وحتى 1948م والتى شهدت جرائم مشابهة. جميع ممارسات اليهود الدموية تقف خلفها رؤية دينية يقتنعون بها وكُتبت فى التلمود! وملخصها أنهم فقط من خلق الله الدنيا من أجلهم وكل من هو ليس بيهودى مستباح الحياة والأملاك والأعراض!

(4)

دور البطولة الدموية فى العصور المسيحية!

اتسمت دعوة السيد المسيح (س) بالسلام. لكن تاريخ كثير من أتباعه خاصة فى القرون الأولى للديانة يسير على النقيض تماما من ذلك. فمن أصبحوا المهيمينين على الكنائس وكان مفترضا أن يكملوا دعوته للسلام، اقترفوا من الجرائم ما لم يقترفه كثيرٌ من مجرمى العصور البدائية. قاموا بنفس الجرائم التى اُرتكبت ضدهم فى بدايات المسيحية.

سحلوا وقتلوا وحرقوا المخالفين لهم فى فهم النصوص الدينية حتى من رجال الدين أنفسهم بخلاف العامة. أثاروا الفوضى وقادوا قطعان الغوغاء و وعدوهم بالخلود فى مكلوت الرب مقابل أن يقتلوا ويسحلوا ويحرقوا ويطردوا المخالفين لهم فى الديانة والمذهب من بيوتهم ومدنهم!

والسبب الظاهرى المعلن خلف تلك الجرائم، أنهم يدافعون عن دين الله القويم ويحمون الإيمان القويم من الهرطقة!

كلنا نتهم ملوك أوروبا فى العصور الوسطى بأنهم غلفوا أطماعهم فى شعوب الشرق بدعايات دينية كاذبة. لكننا نتغاضى عن المشهد الأول، مشهد ما فعله باباوات المسيحية فى بداية الديانة وأنهم هم من علموا أباطرة روما وبيزنطة لعبة استخدام المسحوق الدينى لغسل الأيدى من كل الجرائم التى ارتكبوها ونقل حروب النفوذ والأطماع إلى كتاب الأعمال الدينية السامية!

أما ملوك أوروبا فقط طوروا اللعبة وأضافوا مزيدا من المحسنات والمؤثرات الجماهيرية على المسحوق، فقرروا استخدامه بعيدا عن حدود بلادهم ووقف كالعادة فى ظهورهم باباوات العصور الوسطى!

غزوا بلاد الشرق واستعمروها وقتلوا ونهبوا واستباحوا الأعراض والممتلكاتومقدسات الشعوب وعبوا من دماء من يدافعون عن بلادهم. اقترفوا جميع تلك الجرائم رافعين الصليب فى مشهد نموذجى تقليدى لاستخدام مسحوق الدين فى غسل الأيدى من الدماء الحرام!

(5)

المسلمون والبداية المبكرة لاستخدام المسحوق!

لم يمضِ على وفاة النبى محمد(ص) سنوات قليلة، حتى وجد العرب ضالتهم فى مسحوق الدين الجديد لتتحد سيوفهم – بعد أن كانت متفرقة تقتطع رءوس بعضهم البعض، ويصفهم أعداؤهم بالغدر والخيانة وغيرها من الصفات – وتطيح بالرءوس وتستولى على الممتلكات تحت مسميات براقة مثالية تضعهم فى مصاف الأبطال لا المغيرين النهابين!

يقول القرآن الكريم صراحة إن الله أرسل محمدا رحمة للعالمين، بينما سيرة كثيرٍ من أتباع الدين القويم – فى العقود والقرون الأولى – تسير عكس ذلك تماما ثم ورث خلفاؤهم تلك الصفحات فأضافوا عليها أكاليل الغار ورفعوها إلى درجة من التبجيل تكاد تصل للقداسة!

اختاروا اسما جميلا (الفتوحات الإسلامية) أطلقوه على حروب استعمار الدول والشعوب الأخرى! شهدت وقائع تلك الحروب جرائم لا تمت للديانة أو لسيرة صاحب الرسالة بأى صلة! 

اضطهاد دموى –وصل للتعذيب البدنى والقتل – أو اقتصادى – الضرائب الباهظة حتى على دفن الموتى أحيانا – أو أخلاقى لأهل الذمة عكس أوامر القرآن الكريم والمتواتر من السنة النبوية. وهم يرتكبون تلك الجرائم وجدوا من يغسلون أسماءهم وجرائمهم بروايات وقصص موضوعة نسبوها للنبى (ص) أو لبعض صحابته وعمر بن الخطاب (الشروط العمرية)!

ولم تقتصر الجرائم على تلك الفتوحات، بل شملت الصراعات البينية على الحكم والنفوذ والثروات. فإنْ كان كثيرٌ من أصحاب الحضارات القديمة قد نأوا بأنفسهم عن جرائم بالغة الخسة الإنسانية مثل قتل الأسرى، ونبش القبور أو التمثيل بالجثث، فقد سجل التاريخ كثيرا من تلك الجرائم بأيدى قادة وجنود كانوا يدعون أنهم يفعلون ذلك من أجل نصرة دين الله!

أحدهم قتل آلاف الأسرى من المسلمين! بعد أن استسلموا وألقوا سلاحهم وبعد سنوات قليلة فقط من موت النبى (ص)!

آخر خلفاء الأمويين وفى رحلة هروبه من العباسيين إلى مصر بجنوده، استباح الأديرة والراهبات والرهبان!

العباسيون نبشوا قبور خلفاء بنى أمية وحرقوا ما وجدوه من رفاة واستباحوا الآلاف من غيرهم من المسلمين أيضا فى مذبحة ومقتلة تخطت أعداد ضحاياها عشرات الآلاف!

(6)

دور المسحوق فى عمليات تحميس وتهييج الجنود قبل ارتكاب الجرائم!

أما من ناحية تجنيد الجنود وتحميسهم، فأيضا لا نجد عند الحضارات القديمة فكرة استخدام المسحوق الدينى بكثافة أو – فى بعض الحالات – لم يتم استخدامها على الإطلاق للقيام بذلك. ومثال ذلك الحضارة المصرية، فقد كانت هناك قوانين عسكريةنظامية صارمة تحكمها مجموعة من القيم تمثل فى حد ذاتها المحفز للجنود. بالإضافة إلى ذلك كانت هناك النياشين والمحفزات التقليدية.

كان رضا الآلهة يأتى فى مرحلة لاحقة لتقييم الأداء على أرض المعركة أخلاقيا، ولم يكن هو الباعث لحماسة الجنود فى البداية. فلم يخطب القائد فى جنوده قائلا مثلا لقد أمرنى الله بغزو هذه الأرض أو الاستيلاء على هذه الأموال أو قتل هؤلاء الناس!

أما فى حالة الديانات الإبراهيمية، فلا نجد سوى خطاب واحد مكرر من أتباع الديانات الثلاثة حين كانوا يريدون تحفيز جنودهم لاقتراف ما يرغبون فيه من جرائم ومذابح أو خوض حروب لم يكن الجنود ليخوضوها بأى اقتناع أو حماسة دون ذلك الخطاب!

تفيض الوثائق بالآلاف من نصوص ذلك الخطاب الدينى. فى الحالة اليهودية لم يكن خطابا زاعقا، بل كان يغلب عليه السرية لأنه كان يوجه فى أوقاتٍ يتعرض أصحاب الديانة لمخاطر كبرى بعد أن تفسد إحدى خططهم فى بلدان ما فيجنح أصحاب تلك البلدان لمحاولة طردهم أو استئصالهم فيصبح ذلك الخطاب السرى هو طوق النجاة للأتباع!

وأقوى مثال نموذجى لذلك هو كيفية نجاح أصحاب الخطاب فى تغيير العقل اليهودى الجمعى تغييرا كاملا من النقيض للنقيض. من رفض فكرة التجمع فى فلسطين فى القرنين السادس عشر والسابع عشر، واعتبار تلك الدعوات تحديا صارخا لإرادة الله، إلى تبنى غالبية اليهود لتلك الدعوات والحماسة المفرطة لوضعها موضع التنفيذ باعتبارها أيضا إرادة الله فى نهايات القرن التاسع عشر! وذلك بعد أن تدخل الحاخامات ونشروا خطابا دينيا ينفذ إراداتهم وإرادة القادة!

أما فى الحالتين المسيحية والمسلمة، فلقد كان دائما الصوت زاعقا وكلما علا صراخه أتى نتائج أكبر بين كتل الغوغاء. وسبب ذلك كثرة الأتباع وتوجه الخطاب إلى مجتمعات يكونون دائما هم الأغلبية بها.

فقادة الحملات الصليبية كانوا يحمسون الجماهير فى ساحات الكنائس الكبرى وفى الميادين والشوارع وأفنية التدريبات العسكرية!

وقادة المسلمين كانوا يخطبون بين أتباعهم فى ساحات المساجد الجامعة أو فى تجمعات الجنود فى الصحارى بينما يمتطى القائد صهوة فرسه ويجمل خطابه بمزيد من الآيات القرآنية المقتطفة من سياقها أو الأحاديث التى نسبت للنبى (ص) والتى كان بعضها يقوم بوضعه وصياغته وضاعٌ محترفون!

لا يسرى هذا الوصف على خطابات التحميس فى العصور الوسطى فقط، فلدينا مشاهد حديثة جدا بعضها وقع فى مصر وسجلته صفحات المؤرخين. فبعد غزو بونابرت لمصر وبعد كثيرٍ من الأحداث، نجح بعض العثمانيين نجاحا مبهرا – عبر الفقهاء ورجال الدين الأزهريين - فى قيادة كتل المصريين فى اتجاهٍ ضد المنطق وضد الواقع المصرى ذاته. نجحوا فى إقناعهم أن مقاومة الفرنسيس واجبة لأنهم كفار، أما السلطان العثمانى فهو سلطان المسلمين وعلى المصريين أن يخضعوا له ويعترفوا أن مصر ملكا لسلطان المسلمين!

وذلك رغم المظالم ورغم الفقر المدقع والجهل المشين التام والمرض الذى كان ينهش المصريين، ورغم أن هذا السلطان المسلم بحكمه وحكم المماليك أخرجوا مصر والمصريين خارج التاريخ آنذاك!

بل وذهبوا إلى أبعد من ذلك، فأقنعوا المسلمين المصريين أن القبط من مسيحيى مصر متواطئون مع الفرنسيس فوضوعوهم فى كل موقف ومواجهة فى موضع الشك والاتهام..أما ماستر سين المشهد فهو ما حدث فيما يسمى ثورتى القاهرة حين جلس أحدهم (نصوح باشا) يحمس المصريين المسلمين ويحرضهم ضد المصريين المسيحيين ويعدهم ببقشيش فى حين نجاحهم فى قتل أحدهم أو أسره!

(7)

مواقف الشعوب ومدى تقبلها أو رفضها!

لقد مرت الشعوب بفترات تاريخية متباينة ومتعاقبة. فبعضها نال قسطا من الحضارة والرقى وفطن إلى ما كان يُفعلُ به، بينما شعوبٌ أخرى ما زالت تسير سيرتها الأولى وتنقاد تماما للمهرة من مستخدمى هذا المسحوق!

الشعوب التى نالت هذا القسط من التدبر، تخطت بالفعل مرحلة هامة وخطت خطوات نحو فكرة النضج العقلى وفطنت إلى اللعبة وادخرت جهدها لخوض معارك تهمها وتخص تفاصيل حياتها وفرضت على الحكومات لعبة أخرى أكثر فائدة لها. تلك اللعبة هى فكرة المشاركة فى الحكم، والمراقبة الفعلية للتصرف فى موارد البلاد، ومشاكسة الحكومات للحصول على أكبر قدر من المكتسبات!

لكن تلك الشعوب تعترف أيضا وتلتزم بما عليها من واجبات، وأهمها الدفاع المشترك مع الحكومات عن مصادر وموارد الدولة والحفاظ عليها ولا مانع من فعل ذلك تحت شعار الوطنية، فهى أصدق وأفيد للشعوب من خوض معارك يحاول رجال الدين أن يدعوا أنها معارك نيابة عن الله وأنها مؤجلة المقابل إلى يوم القيامة!

أما شعوب ودول منطقة الشرق الأوسط، فهى لا تزال فى مرحلة اقتناع قطاعات كبيرة منها أنها خلقت من أجل أن تخوض أحيانا حروبا بأوامر من الله ضد الكافرين به من وجهة نظرهم!

تصاب تلك الشعوب بحالة هستيريا من مجرد الاقتراب من الجرائم التاريخية المغسولة بالمسحوق الدينى! محاولة اقتراب بعض المفكرين أو حتى الأفراد المثقفين أو الذى رأوا ما وصلت إليه الشعوب الأخرى من هذا السجل الذى يحوى تلك الجرائم أو مقترفيها قد تكون نتيجتها عقاب مجتمعى مؤلم من نبذ أو حتى الزج بالمقتربين فى السجون إن سمحت القوانين المحلية بذلك، أو تشويه السمعة أو غيرها من أنواع العقاب حسب تركيبة ونوعية وتباين هذا المجتمع عن ذاك!

(8)

دور الحكومات!

يحاول بعض الحكومات – كرؤية مؤسسية أو فردية لبعض كبار المسؤلين – إعادة تدوير المسحوق بأشكال مختلفة، وتعد ذلك من أسلحة البقاء فى الحكم، أو السيطرة على تحركات الجماهير، أو الحفاظ على إنهاك الجماهير عقليا وروحيا بعيدا عن التطلع لما وصلت إليه شعوبٌ أخرى، وأحيانا انصياعا لخطط خارجية فى حالات الخيانة الصريحة، أو الضعف الشديد والخوف على فقد الحكم!

وتتصف تلك الحكومات بصفات متشابهة، أولاها عدم الكفاءة والشعود الذاتى بذلك وبأن المجموعة المكونة لطبقة الحكم ليست الأفضل، وثانيها انعدام الرؤية سواء للتداول مع ما يواجهها من مشاكل أو الرؤية لما سوف تكون عليه البلاد بعد عام أو عشرة أو خمسين عاما.

يتصف أفراد هذه الحكومات بالأنانية المفرطة ومحاولة الحصول على أكبر قدر من المكاسب الشخصية، وعدم الشعور بالانتماء، لذلك يلجأ أفرادها دائما لخطوط خارجية تشعرهم بالأمان الذاتى الذى لا يشعرون به داخل الأوطان التى يحكمونها!

الإبقاء على حيوية هذا المسحوق الدينى المتمثل فى وجود زعماء دينيين يتمكون من السيطرة على كتل الجماهير عند الحاجة إليهم هو من أولويات تلك الحكومات، ومن آليات قياس مدى كفائتها ووطنيتها وإخلاصها لبلادها.

تصبح العلاقة بين وجود هذا المسحوق والإبقاء عليه وتطويره فى بلد ما، وبين درجة قوة الحكم وإخلاصه الوطنى وكفاءته وثقته بنفسه وإحساسه بالانتماء والأمان، تصبح هذه العلاقة علاقة عكسية تماما!

ينكمش زعماء وصناع ومستغلو والمستفيدون من المسحوق الدينى فى حالة قوة الحكم وامتلاكه رؤية فكرية واقتصادية حاضرة ومستقبلية. وتستفيد الشعوب من هذا الانكماش فيمكنها -إن استغلت الموقف- أن تخطو خطوة نحو ما سبقتها إليه الشعوب الأخرى.

وفى أمثلة أخرى قد تحارب تلك الشعوبُ قوة الحكم فتصبح شعوبا أمينة ومخلصة لنموذج العصور الوسطى وتصبح عبئا على مؤسسات الحكم فترهقها وتختصم من قوتها بما يؤثر على الدولة!

(9)

سر الهستيريا ضد المشير عبدالفتاح السيسى عام 2013م

إن من أسباب حالة الهستيريا التى أصابت الكثيرين حين ظهر المشير عبد الفتاح السيسى فى مشهد 2013م، ثم توليه رئاسة مصر بعد ذلك، أنه يدرك جيدا قواعد وأصول هذه اللعبة القذرة التى دفعت مصر ثمنها غاليا لعقود طويلة. كما دفعت دولا أخرى مجاورة استقلالها ثمنا لها.

المشير عبد الفتاح السيسى اتخذ قرارا شخصيا ومؤسسيا بالخروج بمصر خارج هذه اللعبة وهو يعلم تماما أن المواجهة ستكون شرسة. فأن تحارب القوى التى تدير المشهد رجلا محيطا بكتاب الأسرار أصعب كثيرا من أن تحارب رجلا لا يعرف!

الرفض العنيف والمتبجح من الخارج لما انتهجه السيسى مرده أنهم قرأوه جيدا وتيقنوا بوضوح اعتزام الرجل نقل مصر من منطقة سياسية وحضارية واقتصادية إلى منطقة أخرى من خريطة العالم، وهذا ما يعنى تغيرا لن تتقبله القوى التى تتحكم فى مقدرات العالم الاقتصادية بسهولة!

معناه تطلعه هو شخصيا لما تطلع إلى تحقيقه فى مصر محمد على فى يوم من الأيام. معناه حرق جميع معلبات ذلك المسحوق فى مصر الخفى منه والمعلن! وأن ما تم إنفاقه من أموال لتنشيط تلك المعلبات قد ذهبت هباءً منثورا! فالسابقون لم يتجرأوا مثله على تلك المواجهة!

معناه أن الأيدى لن تكون مرتعشة وهى تزيل الأتربة عن سجلات التاريخ، وتعيد توصيف كل الجرائم وتصفها بما تستحقه استعدادا للدخول بمصر فى مرحلة تاريخية جديدة!

وهذا ما ترفضه قوى ودول إقليمية ودولية، بينما لا يزال قطاعات من المصريين تخوض حربا ضد ما تطمح إليه مصر وهى – أى تلك القطاعات – ربما لا تدرك أنها تخوض حربا بالنيابة عن أعداء مصر فقط انسياقا وانخداعا بذلك المسحوق!

يمكن تلخيص سر تلك الحملة الشعواء التى تعرض لها الرجل بأن الذين يعتبرون أنفسهم مخرجو أى عروض مسرحية حقيقية على كوكب الأرض ومحركو القادة والزعماء فى هذه البقعة التعيسة المسماة بالعالم الثالث، أن هؤلاء السادة يوم 3 يوليو 2013م قد فغروا أفواههم مندهشين..ويمكن وصف حالهم بعبارات مصرية عامية ..(هو الراجل دا بيعمل إيه؟ دا ناوى يقلعهم الأقنعة والناس تشوفهم بجد ويضرب كرسى فى الكلوب! يبقى ناوى يشتغل بجد!) قبل أن تنقلب علامات الدهشة إلى حركات تشنج هستيرية تستنفر كل الأعوان والعملاء لخوض المواجهة التى خاضتها مصر منذ 30يونيو 2013م!