رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

علمانى أتلفه الهوى

فى نهايات عام ٢٠٠٧ تداولت الصحف العربية والدولية أنباءً عن ملاحقة دبلوماسى أمريكى يدعى باتريك سيرنج، بعد أن بعث رسائل صوتية عبر هواتف موظفى المعهد العربى الأمريكى، وعبر البريد الإلكترونى للمعهد، قال فيها إن «العربى الجيد الوحيد هو العربى الميت»، وقالت الخارجية الأمريكية وقتها إن سيرنج استقال قبلها بشهر بعد عشرين عامًا من العمل كدبلوماسى محترف.

أغلب الظن أن أصل تلك المقولة المتطرفة لا يعود إلى ذلك الأمريكى، فهناك إشارات كثيرة تؤكد أنها من كلاسيكيات المنظمات الإسرائيلية الصهيونية المتطرفة، ولكن اللافت أن تلك العبارة تحولت إلى شعار لجميع التيارات العنصرية المتطرفة فى جميع أنحاء العالم، مع تغيير واحد بسيط يخص جنس المستهدف أو جنسيته أو دينه، فأصبحت هناك مقولة بشأن «اليهودى الجيد»، و«الأمريكى الجيد»، و«الصينى الجيد» وغيرها من العبارات المستوحاة منها أو المبنية عليها، والحقيقة أننى لا أعرف لماذا تبادرت تلك العبارة إلى ذهنى عندما قرأت تعليق طبيب متواضع على صورة الإمام أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، خلال رحلة عودته من العلاج فى أوروبا، وهو على حسب علمى رجل يمتهن الكتابة الصحفية منذ سنوات طويلة، وإلى جانب عمله كطبيب يقدم نفسه للصحافة والإعلام باعتباره علمانيًا تنويريًا منفتح الذهن والعقل، ما أثار دهشتى وتحفظى، فمثل هذا التعليق المتسرع، يكشف عن عميق جهل قائله أو كاتبه، وتسرعه، واستسلامه للهوى.

التعليق الذى كتبه صاحبنا العلمانى الذى أفسده الهوى، يخص كتابًا وضعه الشيخ الطيب إلى جواره، ويبدو من الصورة أنه كان يقرأ فيه قبل التقاط الصورة، فظهر عنوانه «أفول الغرب»، ولأنه فيما يبدو ينتظر أى فعل من الرجل للهجوم عليه، أو التقليل منه، استخدم عنوان الكتاب وكأنه تعبير عن رغبة فى نفس قارئه، ليكتب تعليقه الأحمق، وليكشف عن عمق جهله بأبسط قواعد صناعة الكتب منذ أن عرف الناس الكتابة، وبدلًا من أن يسأل عن محتوى الكتاب، أو يحاول التعرف عليه، ركبه شيطان السخرية والتصيد.

على أننى لن أتحدث هنا عن محتوى الكتاب، فقد كتب عنه الكثير من الزملاء، والمهتمين، ممن أصابتهم حرفة القراءة والكتابة، وهم جديرون بها، لكننى سوف أذكر لكم قصة ربما يعرف تفاصيلها الكثيرون، لكنها الأنسب هنا أيضًا، فمما يحكى فى التراث العربى أن العالم الجليل أبوحنيفة النعمان كان يجلس مع تلاميذه فى المسجد، وكان قد استأذنهم أن يمد رجليه بسبب آلام مزمنة فى الركبة، وبينما هو يعطى الدرس، جاء إلى المجلس شيخ تبدو عليه علامات الوقار، فجلس بين تلاميذ الإمام، فاستشعر الإمام الحرج، وطوى قدميه أمام ذلك الشيخ الوقور الذى ظل صامتًا يراقب تلاميذ الإمام الذى جلس يغالب آلام الركبة، حتى تحدث ذلك الضيف دون استئذان قائلًا: «يا أبا حنيفة إنى سائلك فأجبنى، متى يفطر الصائم؟». ظنّ أبوحنيفة أن السؤال فيه مكيدة، أو خدعة عميقة لا يدركها علمه، فأجابه على حذر: «يفطر إذا غربت الشمس»، فقال الرجل ووجهه ينطق بالجد، وكأنه وجد على أبى حنيفة حجة بالغة: «وإذا لم تغرب شمس ذلك اليوم يا أبا حنيفة فمتى يفطر الصائم؟»، هنا قال أبوحنيفة قولته المشهورة: «آنَ لأبى حنيفة أن يمد رجليه».

والحقيقة أن ما كتبه ذلك الطبيب المتواضع الذى لم يسمع أحد عن علاجه لحالة ذات أهمية، أو إنجاز طبى ذا قيمة، يتسم بالجهل والتنفير، بل ويستلزم التحقير مما يدعو إليه من أفكار وتصورات، ويطول رفاقه من مدعى العلمانية والتنوير، فهو بالضبط ذلك الشيخ الذى تبدو عليه سمات الوقار والهيبة، بينما ما بداخله أقرب إلى الخواء الذى يستدعى مد الأقدام فى وجهه وإن لم تكن بالركبة أى آلام، ويستدعى الكثير والكثير من التساؤلات، من أين يستمد هؤلاء الجرأة على الكتابة فى شأن هم أجهل الناس به؟ لماذا يريدون إشعالها حربًا؟ وضد من؟

قبل كل ذلك.. ماذا يعنى أن يتفرغ خريج كلية الطب أو الهندسة أو غيرهما لغير ما درس؟

أقول لك.. هذا باختصار يعنى أنه لم يكن سوى طالب يجيد الحفظ، درس ما لا يحب ولا يهوى، وانقاد لما ساقه إليه القطيع الذى ينتمى إليه، أو المجموع الذى حصل عليه فى الثانوية العامة، دون أدنى قدر من حرية الاختيار، أو فهم الذات، أو المعرفة بما يريد، والنتيجة أنه تخرج فى كلية الطب «ممارس عام»، لم يستطع أن يضيف إلى ما سبقه شيئًا، فعاش مجرد موظف، طبيب اعتيادى، لا تميز له ولا فرادة، إلى أن قابل شخصًا بحمالات، يجيد «الرطرطة» فى الكلام، وتجارة الرغى، فأحس أنه بوابته إلى عالم الشهرة والكلام وإثارة الجدل، ليس مهمًا التوقيت أو المعنى أو غير ذلك، فانضم إلى مدرسة «انتظر فرصتك، وارم حجرك، وكله بياكل عيش»، إلا أن ما لم يدركه ذلك الطبيب التنويرى المتواضع أن الكتابة تستلزم القراءة، وأن العلمانية والتنوير وانفتاح العقل بحاجة إلى كل كتاب، بحاجة إلى مداد من الأفكار والتصورات والحوارات مع الذات ومع الآخر المختلف.. وأن العلمانى الجيد، أو التنويرى الجيد، هو العلمانى الذى يقرأ، لا الذى يسخر من قراءة مخالفه لكتاب، لا الذى تستفزه قراءة كتاب، ولو كان مضادًا لتصوراته، وأفكاره، ولا يغلبه الهوى و«يجيب الأذى لنفسه» ولكل من لف لفه.