رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى الطريق إلى طماى الزهايرة

الآن لا صوت يعلو على صوت معلقى الكرة فى مصر والعالم.. لا أحد ينتظر نشرة أخبار التاسعة ليعرف إلى أين يذهب بنا المناخ؟.. الوارد والمتداول من أهل الجغرافيا يقول إننا مقبلون على جحيم غريب.. نار هوجاء.. يرددون كلامًا غريبًا عن ارتفاع قادم فى درجة حرارة العالم بمقدار درجة ونصف الدرجة فماذا سيفعل بنا ذلك؟.. الأوروبيون الذين تعودوا على الجليد والأجواء الباردة والرقص تحت المطر.. ها هم الآن يشاهدون عشرات المزارع وأشجارها تحترق وتطرح لهبًا يمتد باتجاه السماء.. ويصرخون.. لقد أساءت العربات وعوادمها والمصانع إلى الطبيعة كثيرًا فهل تغضب الطبيعة إلى حد الاحتراق؟

نحن هنا.. فى الجو الذى كان حارًا جافًا صيفًا دافئًا ممطرًا شتاء ننتظر تغيير مناهج التعليم.. فقد صار المناخ الذى نعيشه أصدق أنباء من الكتب.. نساؤنا يصرخن يطالبن بشراء أجهزة تكييف جديدة.. والأطباء يحذرون من استخدام المراوح.. كل لطشة مروحة هى الآن دور كورونا محتمل.. فماذا نفعل؟

نشرات الأخبار ورجال البيئة يستعدون لمؤتمر ضخم تستضيفه شرم الشيخ فى نوفمبر المقبل وأراهم يعولون كثيرًا على الأمر.. من المؤكد أن العلماء سيتفقون.. لكن هل يتفق أصحاب الأعمال المشروعة وغير المشروعة.. هل تستطيع الحكومات إجبارهم قبل أن يحترق العالم؟

أطفال مدارسنا فى الصعيد يضحكون على تلك المبادرات التى يبشرهم بها مدرسوهم فى طابور الصباح.. لقد قرر السيد المحافظ- مثلما يقرر كل عام- أن يزرع الشوارع بالأشجار وأظن أن كل الميزانيات رصدت منذ سنوات لهذا الأمر.. فلماذا هم يكررون النداءات فى نفس الموعد كل عام ولا يحدث شىء؟.. حتى أكون دقيقًا.. فالمحافظ ورجال مجلس المدينة وموظفو المحليات يأتون ومعهم عدد قليل من الشجيرات يزرعونها على الجسر ويمضون.. بعد أيام تموت فى مكانها واقفة.. فهل سيفعلون نفس الشىء أم أن أخبار العالم الذى يحترق ستجبرهم هذه المرة على تغيير الخطة.. وربما يزرعون شجرًا حقيقيًا بطول الجسور وعلى أطراف الصحراء وأمام المنازل.. ربما يقطعون تلك الأشجار القيّمة التى يسمونها الفيكس كما يقولون منذ سنوات.. ربما.

تابعت مثل الجميع تلك الإعلانات التى تنتجها وزارة البيئة.. لكننى لم أتعشم فى أن تنحصر للأخضر فعلًا.. فكان أن قررت أن أهجر الجميع وأذهب إلى الأخضر الحقيقى الذى يشعرنى بأننى على قيد الحياة.. وأنه لا أمان فى هذا العالم ولا طوق نجاة إلا فى موسيقى بليغ حمدى.. لماذا أذكره الآن ونحن نتحدث عن المناخ وعن الأشجار فى مواجهة الحرائق المنتظرة؟.. وحده بليغ حمدى يقدر على تغيير مزاج العالم.. لكنه حتمًا يشعر بالحزن.. وأنا أيضًا.

لقد صدر القرار وسيصبح بيت أم كلثوم فى طماى الزهايرة متحفًا.. لقد شكا أحفادها من أبناء خالد إبراهيم من أن يتحول بيت أم كلثوم فى قريتها بريف السنبلاوين إلى مأساة.. بيت قديم متهالك بلا سقف.. ناشدت الأسرة رئيس الجمهورية بعد أن اشتكوا للجميع ولم يستجب لهم أحد.. من الحال الذى صار إليه البيت حتى صرخوا يستنجدون بمبادرة حياة كريمة.. كان هناك من يرى أن أم كلثوم لها متحف فى القاهرة ربما لا يعرفه أحد.. وماذا سنفعل بكل هذه المتاحف؟.. فلم ينتبه أحد إلى بيت أم كلثوم فى «طماى» حتى سمع الرئيس صراخ أهل «الست» فكانت توجيهاته بأن يتحول إلى متحف أخيرًا.

تذكرت «سيرة الحب» وأوراقها التى لحنها بليغ وتمنيت لو أنهم جمعوها من شوارع شبرا ووضعوها فى متحف أم كلثوم سواء فى الروضة أو فى طماى الزهايرة.. ثم انتبهت.. وسألت: وكم بليغ حمدى يملك هذا العالم؟

هل أتمنى أن تذهب مبادرة حياة كريمة أيضًا إلى شبرا لتنقذ تراث بليغ حمدى بعد أن تحول بيته إلى ورشة نجارة.. أعرف أن بعض أفراد أسرته يحتفظون بأشيائه.. ومن حين إلى آخر يعلنون عن اكتشافهم بعض أغنيات جديدة آخرها سيغنيها على الحجار قريبًا.. ولكن ماذا عن كل شىء يخص الرجل؟!

شقة سفنكس لن تكون متحفًا.. وشقته القديمة فى الزمالك أيضًَا.. وبيته فى شبرا تحول إلى ورشة نجارة.. ولا أعتقد أن منزل أسرته فى سوهاج لا يزال موجودًا.. فأين نذهب بكل ما نملكه عن بليغ حمدى؟

أم كلثوم وبليغ «مجرد نماذج».. فنفس الشارع الذى يقع فيه بيت بليغ حمدى يوجد بيت صلاح جاهين وليس بعيدًا عنهما بيت داليدا.. وهناك مئات الأسماء.. وقد فعلت وزارة الثقافة شيئًا طيبًا عندما قامت بوضع بعض اللافتات على بعض تلك البيوت وكتبت فوقها «هنا عاش فلان».. هذا هو الإنجاز العبقرى لجهاز التنسيق الحضارى.. شكرًا على كل حال.. لكن هل يكفى ذلك؟

أعتقد أن خطوة إنقاذ بيت أم كلثوم فى طماى الزهايرة قد تكون هى البداية لوضع خطة عاجلة لإنقاذ بيوت ومقتنيات رموز مصر فى المائة عام الأخيرة.. من بيت سيد درويش فى كوم الدكة بالإسكندرية، مرورًا ببيت رفاعة الطهطاوى فى طهطا، وليس نهاية ببيوت من يعيشون من رموزنا الآن.

شبابنا الذى سيطرت عليه أوهام كرة القدم وتفاهات الإنترنت لا يعرف شيئًا عن كل هؤلاء ولن يعرف.. ولن يهمه قطعًا أن يحترق العالم.. فماذا يعنى التاريخ من الأصل.. وماذا تعنى هذه الجغرافيا.. ولماذا نشغل عقولنا بهذه الأمور المعقدة؟.. هكذا يفكرون ويعملون ويعيشون بعد أن حولناهم إلى دمى تحركها دمى من خلف شاشات الموبايل وليذهب التاريخ والجغرافيا إلى الجحيم.

ورغم ما أراه.. فموسيقى بليغ حمدى التى تحتفى بتحويل بيت أم كلثوم فى طماى الزهايرة إلى متحف تبشرنى بأن الأمل موجود.. وأننا سنزرع شجرًا جديدًا.. وأن «المعاد لم يفت.. قطعًا ما فاتش الميعاد».