رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«العثمانية» فى «خربتا»

قصة التشيّع فى مصر قديمة قدم الانقسام الذى وقع بين المسلمين بعد وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، وعبر حلقات القصة كان المصريون يثبتون بصورة متصلة حبًا خالصًا لأهل بيت النبى دفع البعض فى لحظات إلى الظن فى تشيعهم، وفى الوقت نفسه ولاءً واضحًا للمذهب السنى الذى تصالحت عليه غالبية المسلمين.

حالة التراوح بين الاندفاع إلى تحويل محبة أهل البيت إلى تحيز واعتناق لأفكار الشيعة، وبين العودة إلى المذهب السنى والثبات عليه، تجد جذورها وظروفها فى الأحداث التى تفاعلت على المسرح الإسلامى خلال التمرد على الخليفة عثمان بن عفان، ثم استشهاده، وتولى على بن أبى طالب منصب الخليفة، وما تبع ذلك من أحداث.

فمصر لم تكن بعيدة بحال عن أحداث الفتنة الكبرى التى ضربت الأمة الإسلامية «سنة ٣٥ هجرية»، وبدأت باغتيال «عثمان»، كما لم تكن بعيدة عن الانحيازات التى توزعت عليها الأمة بعد وقوع هذا الحدث الخطير، ما بين فريق يحمل «قميص عثمان» ويطلب بثأره، وآخر «علوى الهوى» اصطف وراء الخليفة الجديد على بن أبى طالب، الذى رأى أن الوقت ليس وقت ثأر بل وقت تهدئة واحتواء، وبعدها يتم القصاص للخليفة المغدور.

سنة ٣٥ هجرية لم يكن قد اكتمل عقدان من السنين على فتح العرب لمصر «سنة ٢١ هجرية»، ورغم ذلك كان العرب الفاتحون- على رأسهم عمرو بن العاص- ممن استقروا فى مصر موضع هيبة فى عاصمة الخلافة «المدينة»، كما كان لكبار القبط من المصريين حضورهم وسطوتهم، بسبب ثروات البلاد التى تتركز فى أيديهم، وكانت محل اهتمام وأحيانًا طمعًا من جانب من يحكمون فى عاصمة الخلافة.

فى هذا السياق لم يكن غريبًا أن تجد ذكرًا للمصريين حاضرًا خلال فترة التمرد على عثمان بن عفان، إذ شارك فريق منهم مع غيرهم من الرافضين لسياسة «عثمان» فى محاصرة داره، حتى انتهى الأمر باستشهاده رضى الله عنه. ونقصد بالمصريين هنا العرب الذين استقروا فى مصر بعد الفتح، بالإضافة إلى القلة القليلة التى آمنت من أهلها.

هذا الفريق من المصريين ممن تتحدث عنهم كتب التاريخ كان شديد الميل إلى على بن أبى طالب وداعمًا لفكرة اعتلائه كرسى الخلافة بعد «عثمان». وعندما عادوا إلى مصر- بعد اغتيال عثمان- شكّلوا ظهيرًا مساندًا لعلى، وتحلقوا حول واليه على مصر حينذاك قيس بن سعد بن عبادة. 

وفى المقابل منهم تشكل فريق آخر من وجهاء مصر كان لهم رأى مختلف، إذ أبدوا ميلًا واضحًا إلى تأييد الخصم الذى يدير المعركة مع «على» من دمشق، وهو معاوية بن أبى سفيان. وكانت ذريعتهم فى ذلك المطالبة بالقصاص من قتلة عثمان، لذلك أطلق عليهم وصف: «العثمانية». ولم يكن أمام هذا القطاع سوى الهروب إلى أطراف مصر ليديروا معركتهم مع «العلوية» أو فريق المؤيدين لعلى فى أنحاء البلاد.

كان الصراع بين «العثمانية» و«العلوية» الحدث الأبرز ضمن الأحداث التى أعقبت اغتيال الخليفة عثمان بن عفان، فحسم موقف مصر لصالح أحد الفريقين كان يعنى انتصارًا مبكرًا لطرف من أطراف الخصومة «على ومعاوية»، لذلك احتدم الصراع بين كل من العراق والشام بغية السيطرة على هذا البلد. 

وفى حين تمكّن «على» من السيطرة على مصر فى بداية المعركة، استطاع معاوية بما تمتع به من دهاء، وعمرو بن العاص بما تميز به من خبرة بمصر والمصريين- قلب الطاولة وحسم المعركة فى الختام لصالح الشام. ومثّل ذلك واحدة من المقدمات التى أدت إلى انتهاء الصراع الدامى بين الطرفين لمصلحة معاوية.

تجمع المصريون «العثمانية» فى قرية «خرنبا» و«هى قرية (خربتا) أو (خربتها) كما تم تحريفها، وتتبع مركز كوم حمادة بالبحيرة». رفض أهل «خربتا» مبايعة «على» وشكّلوا جيب نقمة مناوئًا لواليه على مصر «قيس بن سعد». فأرسل الأخير إليهم يقول: «إنى لا أكرهكم على البيعة وإنى كاف عنكم؛ فهادنهم جبى الخراج ليس أحد ينازعه». 

استقرت الحال لعلى فى مصر لبعض الوقت، لكن معاوية لم يكن ليترك الأمور تسير هكذا، فأرسل إلى قيس بن سعد رسالة تبين مدى دهائه وخبرته السياسية، فقد لعب مع «قيس» لعبة مزدوجة يختلط فيها أمر الدين بأمر السياسة، فزجره فى بداية رسالته بحرمة الدم المهدور للخليفة المغدور، ثم أتبع ذلك بالإغراء السياسى فوعده بالملك هو ومن أحبب من أهله. 

وكان للرسالة تأثير من نوع ما على «قيس»، فرد على «معاوية» برسالة هينة لينة، برّأ فيها نفسه من دم عثمان، وأكد أنه لا يعلم عن حديثه عن ضلوع صاحبه «على» فى أمر التخلص من «عثمان»، والأهم من ذلك أنه وعد معاوية بألا يكون عليه وألا يأتيه من قبله ما يكرهه. والسؤال ما معنى أن يبذل والٍ مثل هذا الوعد لرجل يخاصم الخليفة الذى وضعه على كرسيه؟!.

تقول كتب التاريخ إن «معاوية» بادر إلى التأكيد لمن حوله أن «قيسًا» والى مصر معهم، ويذهب بعض المؤرخين إلى أن «ابن أبى سفيان» فعل ذلك على سبيل الحيلة والخديعة. وواقع الحال أن الرسالة التى بعث بها قيس بن سعد إليه تؤكد وجود تحول فى موقفه، وأن قيسًا بالفعل كان مستعدًا للتحلل من ولائه لعلى لصالح معاوية. 

المواقف على الأرض تقول أيضًا إن موقف «قيس» من «العثمانية» الذين تجمعوا فى «خربتا» كان يثير الريبة كل الريبة. فقد تركهم وأجرى عليهم أعطياتهم وأرزاقهم وأحسن إليهم، بل سمح لهم فيما بعد بالخروج إلى الشام للانضمام إلى جيش معاوية المحارب لعلى، بدلًا من أن يتخذ منهم موقفًا حاسمًا. 

الواضح أن موقف والى مصر «العلوى» اختلف بعد رسالة «معاوية» التى غازلت طموحاته السياسية لمزيد من الحكم والسيطرة. وعندما بلغ على بن أبى طالب ما حدث وأن معاوية يردد فى الشام أن «قيسًا» معه تحرك سريعًا وأقال قيسًا من ولاية مصر وقرر أن يسير إليها واليًا جديدًا معروفًا بالحسم، وهو الأشتر النخعى.