رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«السُحار القطني».. عمال مصانع «الغزل والنسيج» يتنفسون غبارًا سامًا

غبار القطن
غبار القطن

في مشهدٍ مهيب، قرب الساعة السابعة صباحًا، كان يسير محمد كامل، صاحب الـ34 عامًا، في طريقه للعمل داخل أحد مصانع الغزل والنسيج بمنطقة العاشر من رمضان، ليشعر فجأة بضيق شديد في التنفس، لا يعلم مصدره، حاول حينها تجاهل الأمر واستكمال طريقه المعتاد عليه يوميًا، لكن الألم ظل يراوده ويشتت تركيزه.

وفور وصوله إلى المصنع الذي قضى به 28 شهرًا، بدأ ينغمس في السعال المتواصل، وذلك لم يمنعه من تأدية عمله، فهو يعلم جيدًا أن لا أحد سيؤدي مهمته، وبالفعل استكمل نوبة عمله التي عادة ما تكون من 8 - 10 ساعات، دون الشكوى من أي شئ يؤلمه، لكن المرض اشتد عليه مع مرور الساعات، حتى وجد نفسه داخل قسم الطوارئ مصابًا بحمى شديدة وانقباضًا في الصدر.

«كامل» برفقة زملائه في المصنع

أدرك «كامل» في ذلك الوقت أنه مصاب بمرضٍ رئوي حاد، كان ناتجًا عن استنشاق غبار القطن، ورغم ذلك لم يمتنع عن الذهاب إلى المصنع، وظل يعاني من الألم  لمدة 16 شهرًا، فهو لديه تاريخ كبير من نوبات الحمى المتكررة، شهدت أعراض مرضه تفاقمًا ملحوظًا عند عودته إلى العمل بعد الإجازات الأسبوعية؛ بسبب غبار القطن الذي كان يطفو غالبًا في جو غرفة العمل، ولم يتم توفير الجهاز التنفسي المخصص للحماية منه داخل المصنع.

وحين خضع «كامل» للفحوصات الصدرية، كانت هناك أصوات حويصليّة للتنفس (أصوات تُسمع من خلال سماعة الطبيب عند إجراء الكشف الطبي) في كلا حقلي الرئة مع فرقعة دقيقة متناثرة، ويُظهر التصوير الشعاعي للصدر الذي أجراه ضبابية منتشرة وغير واضحة المعالم في مناطق الرئة السفلية غالبًا (حسب وصف الطبيب المتابع لحالته).

أشعة الصدر الخاصة بـ «كامل»

ففي عام 2021، اعتزل الرجل الثلاثيني مهنته نهائيًا، بعد أن قضت عليه  العلاجات المستخدمة في علاج المرض الرئوي طويل الأمد، ونصحه الطبيب بالابتعاد الفوري عن التعرض لغبار القطن السام.

الربو المهني

نحو 30% من العمالة المصرية يعملون داخل مصانع الغزل والنسيج، يسابقون الزمن لاستعادة عرش «الذهب الأبيض»، يراودهم دائمًا حلم الوصول إلى العالمية، رغم المخاطر المهنية الجسيمة التي يتعرضون إليها من حينٍ لآخر. 

في يونيو الماضي، نشرت «الدستور» قصة علمية عن معاناة عمال «المناجم والمحاجر» مع غبار «السيليكا» الخطير، وإصابتهم بمرض «السُحار السيليسي»، وها نحن ندخل إلى هذه المساحة مرة أخرى، لكن ما نكشفه في السطور التالية من داخل مصانع «الغزل والنسيج» في مصر، وتعرض عمالها للإصابة بمرض «السُحار القطني»؛ إثر استنشاق غبار القطن السام.

لقراءة الجزء الأول من قصة «السُحار».. اضغط هنا

 

«السُحار القطني» هو أحد أمراض الربو المهني النادرة التي تصيب العاملين داخل مصانع الغزل والنسيج، في حالة عدم استخدامهم الأدوات الوقائية من غبار القطن والكتان وأنواع النسيج الأخرى، ويسبب انسدادًا مزمنًا في المسالك الهوائية التنفسية.

تختلف أعراض المرض من عامل لآخر، منهم من يصيب به بعد شهور قليلة من التعرض لغبار القطن، ومنهم أيضًا من يتحمل سنوات عدة حتى تظهر عليه الأعراض، وتبدأ من القصور في التنفس والشعور بالضيق في الصدر، حتى تسوء الحالة تدريجيًا ويعاني المريض من ضرر كبير في الرئتين والجهاز التنفسي بأكمله.

صناعة «الغزل والنسيج»

موت بالبطئ
من بين 15 ألف شخصًا يعملون داخل شركة مصر بالمحلة الكبرى (أكبر مصنع للغزل والنسيج في مصر)، كان يؤدي «وائل» (اسم مستعار) دوره بإخلاص في  تنفيذ عملية الانتقاء (التخلص من المواد الملوثة بالألياف القطنية)، وتسليمها للعمال المسؤولين عن عملية التمشيط (محاذاة الألياف وضمها في حبل فضفاض يسمى «الشظية»).

قرابة 8 أعوام، قضاها الرجل الأربعيني داخل المصنع، أتقن تلك العملية جيدًا، وكان ينفذها بيديه دومًا حتى استخدمت الشركة ماكينات كهربائية مخصصة لذلك الأمر، لكنه تناسى صحته والغبار السام الذي تسلل لجسده، في محاولة منه لعدم التقصير في العمل، وأيضًا عدم استبداله بعامل آخر.

«كنت طول الوقت بحس بألم شديد في صدري، وقاومت كتير علشان أكمل شغلي ومغيبش عنه»، بصوتٍ حزين عبر العامل خلال حديثه مع «الدستور»، عن الأذى النفسي والجسدي الذي عايشه بعد انقضاء فترة عمله داخل المصنع، وذلك بسبب عدم قدرته على تحمل المرض وضرورة الابتعاد عن غبار القطن الخطير.

عملية انتقاء القطن

وفي الوقت الذي كان يعاني فيه من الرجفان وآلام المفاصل، كانت حالته قد دخلت في المرحلة المتقدمة من مرض «السُحار القطني»؛ الأمر الذي جعله يخضع للكشف الطبي داخل مستشفى صدر المحلة، وهناك اكتشف أن ذلك اليوم كان آخر ذكرى له داخل المصنع.

12 يناير 2016، التاريخ الذي لم يمحى من ذاكرته حتى وقتنا هذا، يوم أن قضى غبار القطن على رجلٍ لم يقصر يومًا في عمله، لكن غياب الإجراءات الوقائية المفترض اتباعها داخل مصانع الغزل والنسيج كانت السبب الرئيسي في ابتعاده عن مهنته.

داخل مستشفى الصدر، أجرى العامل فحوصات طبية عدة، منها الأشعة السينية التي تّبين من خلالها تواجد حساسية من الغبار بجسده أصابته بحالة قريبة من أعراض الربو، وكادت أن تقضي على حياته نهائيًا لولا الإنقاذ المبكر له، ووضعه على جهاز الأكسجين، الذي أصبح يلازمه كلما تعرض لمجهود لا يتحمله جسده.

عمال في مهب الريح

في أبريل 2017، نشر عدد من أساتذة قسم الصدر في كلية الطب بجامعة عين شمس، دراسة تحليلية داخل شركة مصر للغزل والنسيج بمدينة المحلة الكبرى، شملت 115 شخصًا (100 عاملًا تعرضوا لغبار القطن، و15 شخصاً أصحاء لم يتعرضوا لغبار القطن).

وهدفت الدراسة المنشورة بعنوان (أعراض تنفسية ووظيفة رئوية لدى عمال النسيج القطني في شركة مصر للغزل والنسيج المحلة، مصر)، إلى تقييم آثار غبار القطن على أعراض الجهاز التنفسي، واختبار وظائف قياس التنفس بين عمال النسيج القطني.

بين الأساتذة الذين عملوا في تلك الدراسة كان الأستاذ الدكتور محمد عوض تاج الدين مستشار رئيس الجمهورية الحالي لشؤون الصحة الوقائية، والذي أكد في حديثه مع «الدستور»، أن  الفريق البحثي اعتمد على تصنيف العاملين إلى 5 مجموعات، المجموعة الأولى شملت 15 شخصًا من الأصحاء غير المعرضين لغبار القطن، والثانية ضمت 25 عاملًا في النسيج، والثالثة 25 عاملًا في الغزل، والرابعة 25 عاملًا في في فتح بالات القطن، والمجموعة الأخيرة لـ 25 شخصًا يعملون في البطاقات.

 الأستاذ الدكتور محمد عوض تاج الدين

وأشار «تاج الدين » إلى الاستبيان الذي تم إعداده بالتعاون مع مستشفى صدر المحلة، في الفترة من يوليو 2013 إلى فبراير 2014، بعد الموافقة على بروتوكول الدراسة من قبل اللجنة الأخلاقية بكلية الطب، جامعة عين شمس؛ بهدف جمع المعلومات العامة عن العمال، والسجل المهني الكامل والتعرض للغبار، والأعراض التنفسية مثل السعال، والبلغم، وضيق الصدر، وأيضًا تاريخ التدخين بالإضافة إلى الأمراض السابقة، كما أجرى الفريق فحص سريري للصدر، وأشعة سينية، وقياس اختبار وظائف الرئتين التنفسية الذي يهدف إلى تحديد حالة الجهاز التنفسي.

الأعراض التنفسية للمجموعات المختلفة المعرضة للقطن

وخلصت الدراسة المنشورة إلى وجود اختلاف إحصائي بالغ الأهمية بشأن مقارنة وجود أعراض تنفسية بين المجموعة المعرضة للقطن والمجموعة الأخرى من الأصحاء، وظهر أن أعراض الجهاز التنفسي هي الأعلى انتشارًا بين عمال الغزل والنسيج، وكان السعال وضيق الصدر من أكثر الأعراض شيوعاً في المجموعات المعرّضة للقطن.

رابط الدراسة
 

ليس له علاج

الدكتورة إيمان حجازي، استشاري الأمراض الصدرية بمستشفى الصدر بالمحلة الكبرى، قالت إن «السُحار القطني» يعد مرضًا تنفسيًا مهنيًا لدى عمال مصانع الغزل والنسيج، وينجم عن استنشاق تلوث غبار القطن، ويسمى أيضًا بمرض الرئة البنية.

وأوضحت الطبيبة أن «السُحار القطني» يحفز على إفراز الهستامين الذي يسبب تقبض الهواء بالممرات، مما يجعل التنفس صعباً مع مرور الوقت، واستنشاق جزيئات الغبار تعتمد على القطر الديناميكي الهوائي، ومعدل تنفس الشخص.

نوهت «حجازي» أيضًا إلى أن المرض مازال مرتفعاً في البلدان النامية، رغم استخدام المصانع لأحدث الوسائل، وقد أثبت عمال الصناعة أدلة على إصابة الرئة الناتجة عن التعرض المهني لغبار القطن، ويعاني أغلب العمال من ضيق في التنفس والصدر منذ أول أيام العمل، وتتفاقم الأعراض مع مرور الوقت والتعرض المستمر للغبار القطني.

«لا يوجد علاج سوى توقف المريض عن التعرض للغبار الصادر من الكتان والقطن، والتوقف عن استنشاقه لفترات طويلة»، أكدت الطبيبة أن المرض لا يمكن التعافي منه بسهولة، فقط يتم علاج السعال وآلام الصدر دوائيًا، وتتراوح الوقاية واستخداماتها من التقييم السابق للعمالة أو برامج مراقبة للتقييم السريري للأعراض.

من بين استبيان أعدته «الدستور» شمل 50 عاملًا بمصانع الغزل والنسيج على مستوى الجمهورية، لرصد مدى إصابتهم بمرض «السُحار القطني»، تبين أن 64.2% منهم تعرضوا للإصابة بالمرض الرئوي؛ إثر التعرض لغبار القطن، بينما 35.8% لم يشعروا بأعراض المرض حتى وقتنا هذا.

29% من المرضى تركوا عملهم داخل مصانع الغزل والنسيج بعد الإصابة بمرض «السُحار القطني»، و71% واصلوا العمل رغم الأعراض الجانبية التي أنهكت جسدهم.

احتواء الأزمة

أكد مسؤول خاص بشركة مصر للغزل والنسيج - فضّل عدم ذكر اسمه - أن أزمة إصابة عمال الغزل والنسيج بـ «السُحار القطني» عالمية، ولا يخلو منها أي مصنع، لكن الحل الأمثل لاحتوائها هو توافر الأدوات الوقائية من المرض، وارتداء العمال للقناع المخصص للحماية من غبار القطن السام، مؤكدًا أن ذلك القناع ليس متوافرًا داخل أغلب المصانع.

وتابع: «في الأعوام القليلة الماضية، أصبح هناك متابعة دورية من قبل مستشفى الصدر، بهدف إجراء الفحوصات السريرية لعمال المصنع، والتأكد من سلامتهم الصحية، وفي حالة تعرض أي عامل للإصابة بالمرض، يتم توفير العلاجات اللازمة لحالته الصحية ضمن التأمين الصحي للعامين بالشركة». 

واختتم المسؤول موضحًا أن هناك العديد من العاملين المصابين بأمراض رئوية مختلفة، أغلبهم لا يستمعون لنصائح الأطباء الذي يوصوهم بضرورة الابتعاد عن التعرض لغبار القطن، رغبة منهم في عدم ترك المهنة التي توارثوها عن آبائهم، لكن هناك أيضًا من يسيطر المرض عليهم ويجعلهم غير قادرين على مواظبة العمل.

فحوصات طبية وقوانين تحمي العمال

وبعد توضيح كل ما رصده «محرر الدستور» في التحقيق، بحثًا عن حقوق العمال المتعرضين لـ «السُحار القطني»، والحديث مع مستشار رئيس الجمهورية الحالي لشؤون الصحة الوقائية الدكتور محمد عوض تاج الدين، أكد  أن الدولة المصرية تقوم بتحويل أي عامل يثبت إصابته بالمرض إلى المستشفيات الخاصة، وتقديم العلاج اللازم له ضمن خطة «التأمين الصحي» الخاص بالعمل.

وتابع مستشار رئيس الجمهورية الحالي لشؤون الصحة الوقائية أن: «شركات الغزل والنسيج وفقًا للقوانين المصرية تقوم بإجراء فحوصات طبية دورية للعاملين بالمصانع، ومن يُخالف ذلك يعرض للمسائلة القانونية».

وحول قانون تأمين إصابات العمال، نّوه «تاج الدين» في حديثه مع «الدستور»، أنها كافية وتحميهم وتؤمن حياتهم، مؤكدًا: «هناك من يستطيعون مواصلة العمل داخل المصانع رغم الإصابة بالمرض، حسب الأعراض الجانبية (خفيفة - متوسطة - حادة)، وذلك من خلال استشارة وتوصية الطبيب المتابع للحالة، والفحوصات السريرية التي تثبت قدرتهم على العمل».