رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكنيسة: انفصال الإيمان عن العقل يدفع المسيحية نحو «الخرافة»

الكنيسة
الكنيسة

أدلى نيافة الحبر الجليل الأنبا نيقولا أنطونيو، مطران الغربية وطنطا للروم الأرثوذكس، والمتحدث الرسمي للكنيسة في مصر، بتصريح صحفي، تحت شعار «الإيمان والعقل والقربان المقدس».

وقال إنه: «بُناءً على تاريخنا، المتأصل بعمق في تقليد الكنيسة الأرثوذكسية، هناك تأكيد على التعايش والترابط الضروريين بين الإيمان والعقل، إنهما معًا يوفران الأساس لتقوى حية يتم التعبير عنها في العبادة الحقيقية».

وفيما يلي محاولة لبيان العلاقة المُتبادلة بين الإيمان والعقل وكيف أن انفصالهما يدفع المسيحية نحو الأسطورة والخرافة.

يقول القديس غريغوريوس النازيزي: «الإيمان هو ما يعطي الملىء لمنطقنا»، ومع ذلك، من أجل أن يحقق الإيمان منطقنا يجب أن يكون حيًا، يجب إخضاعه للفحص بالعقل بشكل مستمر مثلما يجب أن يعترف العقل بحدوده عندما يُوجد أمام الله المتعالي، مع ضرورة الحفاظ على الإيمان والعقل بتآزر هو الذي يسمح بالتعبير عن اللقاء مع الإله الحي. 

الأب جورج فلوروفسكي «في مقالة جسد المسيح الحي» عَبّر هذا بهذه الطريقة، بقوله: «من خلال الإيمان، لا يُحكم على العقل البشري أن يظل إلى الأبد أصمًا وأعمى إلى حقيقة واحدة حقيقية في الخبرة المسيحية... بل على العكس، نحن نفترض تجلي المسيحية للعقل، الإيمان ينير العقل أيضًا، بينما هو أيضًا يسمو فوق العقل، الإيمان يطلب الفهم، وقد بذل آباء الكنيسة جهدًا كبيرًا لإيجاد نظام فكري جديد قادر على توفير ترجمة للعقيدة في كلمات للعقل، لقد كانت مهمة صعبة وجريئة للغاية لم تنته بعد».

عن أن الكتاب المقدس كمصدر لا ينضب للوحي، قال القديس هيلاري من بواتييه: «الكتاب المقدس غير موجود في ما يُقرأ، ولكن في ما يُفهم»، بينما قال القديس غريغوريوس النيصي: «إيمان الروح المُتسائلة للإنسان ليس لها وسيلة لتتخطى فحص ما يُفهم خطأً، على أنه حالات من النشوة الروحية التي تغذي حتمًا العواطف المظلمة التي يحكمها الكبرياء وحب الذات، ما لم تحفظ "حركات الروح العاطفية" تحت السيطرة التي هي المرساة».

وأضاف: «الإيمان والعقل يشتركان في الزواج الأبدي، وبسبب مرافقة العقل للإيمان في عالم المجهول، فإنه لا يتوقف عن استكشاف وتحليل وتقييم اكتشافات الإيمان التي لا تنتهي، وبالمثل، يَمنح الإيمان الامتلاء لمنطقنا، الإيمان يوفر المعرفة التي تتجاوز المنطق ولكنه لا يحل محله».

ويعبر مصطلح Pseudo-Dionysius عن التعقيد المتناقض للتعايش بين الإيمان والعقل بحسب (في مقال لنفس القديس حمل شعار للأسماء الإلهية): «لذلك فإن الله معروف في كل شيء ومتميز عن كل شيء وهو معروف من خلال المعرفة ومن دون علم، منه يوجد مفهوم: العقل، الفهم، اللمس، الإدراك، الرأي، الخيال، الاسم وأشياء أخرى كثيرة، من ناحية أخرى، لا يمكن فهمه، ولا يمكن أن تحتويه الكلمات، ولا يمكن لأي اسم أن يحويه، إنه ليس من الأشياء التي لا يمكن أن يُعرف في أي منها، هو كل شيء في كل شيء وهو ليس شيء من بين الأشياء. وهو معروف للجميع من كل شيء ولا يعرفه أحد من أي شيء».

ويضيف المقال: «الإيمان يقوم على المعرفة. الإيمان ليس تحركًا عاطفيًا متهورًا، وبالتالي هو غير متجه نحو المجهول واللامتناهي، حتى ما يُشار إليه عادة بـ«مصدر (نبع) الإيمان» هو اعتراف بأن العقل قد قاد إلى آفاق جديدة في المعرفة تتجاوز حدود منطقها، وبالتالي، فإن الإيمان ليس تفكيرًا بالتمني، إنه يؤكد أن هناك مزيد للمعرفة والخبرة من أي سبب تم فهمه نسبة إلى الله وخلقه».

وأيضًا: «يبدأ الإيمان في الزمان والمكان حيث يمتد إلى الأبد واللامتناهي، إن تلاوتنا/ ترتيلنا دستور (قانون) الإيمان «أؤمن» في القداس الإلهي مع بعضنا بعضًا، يؤكد أنه كل منا بصفة شخصية وجماعية ككنيسة إتحدنا، نكون مع الخليقة لـ«كل الأشياء مرئية وغير مرئية» وننتهي مع الأخروية، أي «حياة العالم في المستقبل».

وكتب القديس باسيليوس الكبير في إحدى رسائله إلى المطران أمفيلوتشيوس الأيقوني أن علاقتنا مع الله تقوم على الإيمان والمعرفة التي تؤدي إلى العبادة، بقوله: «نحن نؤمن به الذي هو معروف، ونحن نعبده الذي هو نؤمن به»، هذه الكلمات مفيدة عندما يتعلق الأمر بكيفية تعاملنا مع العبادة بشكل عام والإفخارستيا بشكل خاص، الاعتقاد والمعرفة والعقل تكافلية. هما متميزان عن بعضهم البعض لكنهما غير منفصليّن عن بعضهم البعض، فهم مترابطان وبالتالي يساهم كل منهما في نمو وسلامة الآخر.

وأضاف: «عبادتنا مرتبطة بشكل لا ينفصم عن الخليقة. لذلك، فإن كيفية فهمنا والتعامل مع الخليقة في عبادتنا يقوم على الإيمان والعقل. الخبز والنبيذ المستخدمان في الليتورجيا هما من الخليقة، وفي أي وقت من الأوقات في القداس الإلهي لا يفقدان خصائصهما المادية والطبيعية المخلوقة، بالاقتباس من ليتورجيّا القديس باسيليوس، «الأشياء المرموز إليها، أي الخبز والنبيذ اللذين نقدمهما، بحلول الروح القدس عليها يكونان جسد المسيح ودمه»، ما يُرى ويُتذوق هما الخبز والنبيذ، وما يُتناول هو مقدمة لمائدة الله السماوية.

كما يصف القديس يوحنا الذهبي الفم العلاقة بين ما هو شيء من خلال البصر وبين ما يُرى بالإيمان أنه سرٌ بقوله: «السر ليس عندما نصدق ما نراه، ولكن عندما نرى شيئًا ونؤمن بشيء»، كما يقول بشكل أساسي: «إن السر هو رؤية شيء ما، بينما نؤمن أنه يكون شيء آخر»، فيما يتعلق بالافخارستيا، يمكننا القول أننا نرى الخبز والنبيذ ولكننا نؤمن أنه سر جسد المسيح ودمه.

ويؤكد الكثيرون أن الإفخارستيا هي «دواء الخلود» وذلك بحسب القديس أغناطيوس الأنطاكي، وبالتالي «لشفاء النفس والجسد»، فروحانية الإفخارستيا- بإنكار خاصيتها المادية- هو ترويج إما لنوع من العقيدة التي فيها أن ما يتم رؤيته والتعامل معه مجرد وهم، أو نوع من الفيزيائية الأحادية التي خلَّقتها، والخواص الفيزيائية للخبز والنبيذ تُفقد من خلال إمتصاصها في الطبيعة الإلهية.

المسيحية الأرثوذكسية تتبنى تلقي هبات الإيمان والعقل معًا، وعلينا أن نتذكر أن الإيمان والعقل ليسا حصريًا متبادلان (أي لا يحل أحدهما محل الآخر)، وكلاهما ضروري لتعزيز رسالة الإنجيل الصحيحة الراسخة، ورسالته غير المتغيرة. كلاهما ضروري لخدمة على نحو لائق تعتني بحياة العالم وخلاصه.