رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وقائع ما يجرى فى الشرق الأوكرانى

أخيرًا وبعد أسابيع من استيلاء الجيش الروسى على ميناء «ماريوبول» الاستراتيجى، الواقع جنوب شرق أوكرانيا، الذى يحتل المرتبة الثانية من حيث الأهمية والقدرة بعد ميناء «أوديسا»، أعلن الثلاثاء عن مغادرة أول سفينة شحن محملة بالمعادن الميناء فى خطوة تكشف نجاح الجانب الروسى فى تشغيله، خاصة بعد أن كشف «دينيس بوشيلين» زعيم الانفصاليين فى دونيتسك، عن أن السفينة تحمل «٢٥٠٠ طن» من لفائف الصفائح المعدنية، وتبحر من ميناء ماريوبول إلى ميناء «روستوف» الروسى الواقع شمال العاصمة موسكو.

جاءت تلك الخطوة الروسية بمثابة الرد العملى على اتهامات ظلت كييف ترددها طوال الأسبوع على لسان رئيسها والعديد من المسئولين، حول الإغلاق الروسى العسكرى موانئ البحر الأسود ومنها ماريوبول بالطبع. فى غضون سعى الرئيس زيلينسكى للحصول على أسلحة أمريكية ثقيلة تحتاجها أوكرانيا، من أجل فك الحصار البحرى المضروب من قبل روسيا على الموانئ الأوكرانية، منذ إغراق الفرقاطة «موسكوفا» الشهر الماضى.

عمل الجيش الروسى بإصرار من أجل الوصول لتلك الخطوة الفارقة، على اتجاهين متوازيين، يعكس الأهمية الكبيرة لاستحواذه على مرفأ بحجم «ميناء ماريوبول». فبعد أن ضرب على المنطقة حصارًا كاملًا لأسابيع، تمكن من إسقاط مدينة ماريوبول خلال شهر مايو، وظل هناك حتى استسلام آخر جيب للمقاومة، وهو مصنع «أزوفستال» للصلب. 

على المسار الثانى نجحت وحداته الهندسية فى إزالة وتطهير كل جنبات ومواقع الميناء، من الألغام التى زرعت على مساحة ١.٥ مليون متر مربع، شملت الميناء والمبانى والأرصفة وأجسام السفن الراسية فيه. ليتحقق لإقليم الدونباس وهو الأقرب للسقوط بكامله تحت السيطرة الروسية، منفذ بحرى يحقق له ميزة استراتيجية، باعتبار الميناء ببنيته التحتية يعد الأكبر على بحر آزوف، ومصمم كى يمكنه التعامل مع كل أنواع وأحجام الشحنات البحرية تحت أى ظروف جوية خاصة الشتاء القارس. لهذا تصف أوكرانيا عملية الإبحار الأولى التى خرجت من ميناء ماريوبول بعد أيام من تصفية مصنع «أزوفستال»، باعتبارها عملية نهب لثروات وممتلكات البلاد التى يجرى نقلها إلى روسيا، فضلًا عن أنه من غير المعلوم المكان الذى أنتجت فيه شحنة المعادن، وإن كان المرجح أن تلك الكمية تمكنت القوات الروسية من الاستيلاء عليها من مخزون مجمع أزوفستال.

الجزء التالى الذى يرى الجيش الروسى أنه يحقق له سيطرة أكبر على المحور الشرقى، يتمحور الآن حول مدينة «سيفيرو دونيتسك»، لذلك يخصص لها جهدًا عسكريًا مكثفًا مشابهًا لما جرى فى ماريوبول. 

فالخطة الروسية وضعت كى تسقط المدينة خلال الأسبوع المقبل على الأكثر، لأن من شأن تلك الخطوة فى حال جرت الأحداث وفق الجدول الزمنى الروسى أن تمهد الطريق للسيطرة على مدينتى «سلوفيانسك» و«كراماتورسك»، آخر معاقل القوات الأوكرانية فى الضلع الأوكرانى الشرقى. كما تفتح المجال لإعلان السيطرة الروسية على إقليم الدونباس بشكل تام، بهدف فتح ممر برى يصل الأراضى والمناطق فى الشرق بالجنوب الشرقى، حيث شبه جزيرة القرم التى ضمتها موسكو إلى أراضيها عام ٢٠١٤. يتحسب الجانب الأوكرانى لهذا الفصل من الحرب الروسية؛ فهو يراه الأصعب والأشد وطأة، لتأكده من الأهمية المحورية لهذا الهدف المزدوج بالنسبة لروسيا، وفعليًا هو يضع العملية الروسية بكاملها وكل ما جرى فيها على المحك، فى حال تعثر إتمامه، فهو الإنجاز الذى لن يعود الجيش الروسى دون تحقيقه تحت أى ذريعة وأمام أى عقبات.

بنظرة مقربة على ما يجرى لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجى، نجد فى ظل الهدوء النسبى الذى تشهده محاور القتال الأخرى، والحفاظ على الوتيرة المتقطعة التى توحى بأن القتال هدأ وتباعد قليلًا لكنه لم يحسم ولم يغادر تلك المناطق. يبدو تكثيف النيران والقصف المتبادل على جبهة المحور الشرقى والشرقى الجنوبى، حامية على مدار الساعة، فالجانب الروسى مع تغير تكتيكات انتشاره العسكرى وجهده القتالى يضع تركيزه الأكبر الآن على نقاط بعينها، بنظرية تحقيق الأهم فالمهم حتى يمكنه الإمساك بأوراق حقيقية، بعد شهرين من «التيه» على جبهات ومحاور أخرى عديدة، لذلك بدأت الجبهة الشرقية تؤتى ثمارها، عبر التقدم والإمساك بالأرض الذى تمكن من تحقيقه مؤخرًا. ولهذا أيضًا تكثف مدفعيته قصف المحاور الرئيسية التى ما زالت القوات الأوكرانية تحتفظ فيها بجيوب محدودة، لكن الأخيرة ترى أنها فى حال انسحابها منها سيتمكن الروس من تحقيق الاتصال البرى، الذى لن تخرج منه مهما واجهت من صعوبات. لذلك تحرص القوات الأوكرانية على الإمساك بالطريق الرئيسى المؤدى إلى مدينة «سيفيرو دونيتسك»، رغم المحاولات الحثيثة للقوات الروسية فى حصار القوات الأوكرانية داخل مدينتى «ليسيتشانسك» و«سيفيرو دونيتسك»، حتى تتمكن من خنقها ومن ثم الإجهاز عليها فى سيناريو مشابه لما جرى فى ماريوبول.

على الجانب الآخر، ينتظر الجيش الأوكرانى فى هذه المنطقة بالخصوص، وصول مدافع الهاوتزر الأمريكية التى تعهدت واشنطن بها مؤخرًا، لا سيما أنها السلاح القادر على إجهاض هذا التحرك الروسى، ويمكنها أن تحقق التفوق الميدانى النسبى للجانب الأوكرانى، من خلال إيقاع خسائر كبيرة فى صفوف القوات التى دخلت إلى مدن هذا المحور ولم توقف القصف التدميرى عليها منذ أسابيع. مدفع «هاوتزر M777» الأمريكى الصنع قد يمثل كلمة السر خلال الأيام المقبلة، فى سير ونتائج العمل العسكرى، على محاور الجبهة الشرقية لأوكرانيا، فهو يطلق القذائف لمسافة أبعد ويتحرك بوتيرة أسرع فى حين يمكن إخفاؤه بسهولة بين أشجار وغابات تلك المناطق. تمت تجربة هذا الطراز الجديد فى الأسبوع الأول من شهر مايو للمرة الأولى، وحقق نجاحات ملموسة للجيش الأوكرانى الذى أعلن عن إصابات مباشرة ودقيقة، مكنته من تدمير عدد كبير من المدرعات الروسية فى أكثر من منطقة. لكن تظل هناك معضلة تواجه الجيش الأوكرانى بخصوص هذا الأمر، فتأثير هذا الفارق التسليحى لن يحدث أثره المطلوب خلال الأسابيع المقبلة مباشرة، فلا يوجد العدد الكافى المدرب على استخدامه بصورة فعالة، فضلًا عن أنه لم يصل إلى داخل أوكرانيا منه سوى «١٢ مدفعًا»، حسب وزارة الدفاع الأوكرانية، من أصل ٩٠ تعهدت بها الولايات المتحدة.

كما تبقى مجموعة من الإشارات المهمة فى هذا الصدد، أن هناك تحسبًا وحساسية سياسية لا يمكن إغفالها فيما يخص «المدافع» المتطورة تحديدًا، باعتبارها أسلحة هجومية صريحة. وإن كان الجانب الأوكرانى لا يزال يكرر إلحاحه كى يحصل على المزيد من هذا الطراز، بسبب تقنيته المجهزة بنظام تحديد المواقع العالمى GPSالأمر الذى يسمح له بإصابة الأهداف بدقة، كما تصل مدى إصابته إلى ٤٠ كلم، وقادر على إطلاق أربع جولات من القذائف فى الدقيقة الواحدة، ويستغرق إعداده للإطلاق فيما لا يتجاوز ٩٠ ثانية. وهى إمكانات يرى الجيش الأوكرانى أنها وحدها القادرة على تعطيل المخططات الروسية، بالأخص فيما يخص المحور الشرقى المتداعى، فى حين تيقنت استخبارات الجانب الروسى مؤخرًا، بعد تعرض المقر الميدانى للواء البحرية الروسى «٨١٠» للقصف، أن الهجوم تم باستخدام «هاوتزر M 777» الأمريكية، وأسفر عن مقتل ثلاثة وإصابة ١٤ ضابطًا روسيًا بمن فيهم قائد اللواء، ليعلن بعدها بأيام عن أنه قام بتدمير البعض من تلك المدافع، بواسطة منظومته الروسية الحديثة ذاتية الدفع «جياتسينت S».