رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هالة البدري تختبر الفقد وتحتفي بالحياة في «طي الألم»

الكاتبة المصرية هالة
الكاتبة المصرية هالة البدري

حينما يعزم الكاتب على سرد فصل من سيرته الذاتية، فإنه يغزل قدر غير قليل من الصدق الإبداعي الذي يتأتى من مشاعر حقيقية اعتملت في وجدانه وصاغت فترة لا تُنسى من حياته، حينذاك تصير الكتابة سجلًا لما يبتغي الكاتب الاحتفاظ به في ذاكرته ووجدانه، ونموذجًا لتجربة إنسانية تمس في تفاصيلها كثيرًا ممن عاينوا بعضًا من فصولها.

من هذا المنظور، يمكن قراءة رواية هالة البدري "طيّ الألم"، الصادرة حديثًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، فالكاتبة تضغط على موطن الألم؛ فقد الزوج، فيصير حدث رحيله بعد رحلة قصيرة مع المرض محورًا تتأمل من خلاله الكاتبة حياتها قبل الحدث وبعده، مع المفقود وبدونه، ما يمنح النص زخمًا في تأمل ما يعنيه الفقد بل ما قد تعنيه الحياة في وجود الموت. 

تسعى الكاتبة جاهدة لإفراغ مشاعرها بكل عنفوانها على الورق عن هذه اللحظة الفارقة في حياتها، بكل ما يتطلبه ذلك من استدعاء وتكثيف الألم، في مقابل ذلك لا تولي أهمية لشكل النص الذي سيضم تلك المشاعر؛ فلا يهم هل هو رواية أم سيرة ذاتية، فالتداعي الحُر للمشاعر والأفكار هو ما يقود النص ويدونه. 

تُعلِن: "للمرة الأولى في حياتي، لا تهمني الصياغة ولا أحاول الوصول لمستوى رفيع للغة التي أعبر بها بل ألقي بها وأمضي هاربة منها وأنا أعي تمامًا أني أقطع طريقًا طويلًا لألتف حول كتابة المنطقة الحرام؛ لحظاتنا الأخيرة معا، حتى وإن كنا قضيناها متدثرين بالأمل في البقاء سويا لحياة ممتدة".

ورغم ذلك، فثمة زخم شعري يُكلل النص الذي اتخذ الألم محورًا له، فلا تُغمض الكاتبة عينيها عن التأمل بشاعرية في أدق التفاصيل التي تعاينها، بل إنها تضع ذاتها في مقاربة مع الأشياء المحيطة بها، تُخبرها شجرة المانجو التي جاهدت لتنمو وتزهر بأن باستطاعتها الحياة والاستمرار، وبمقدورها التطلع إلى شموس أيام جديدة. 

غلاف رواية “طي الألم"

مراحل الفقد

يظن كل من مرّ بتجربة فقد أن مشاعره تخصه وحده ولا أحد يمكنه استيعاب الآلام التي يعانيها، إلا أن ثمة مراحل يجتازها كل من عاين التجربة تحدثت عنها الطبيبة النفسية إليزابيث كوبلير روس، ففي النظرية التي وضعتها عن الحزن أشارت إلى أن الإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب، التقبل هم خمس مراحل يمرّ بها من تعرّض لفقد أحد المُقربين. 

في “طي الألم” تسرد الكاتبة رحلتها مع تلك المراحل، فمنذ لحظة الرحيل تؤجل الحزن وتنكره، وترفض تصديق غياب زوجها الأبدي، تطلب من أبنائها الحديث عنه بصيغة المضارع لا الماضي، وترفض التعامل معه كغائب إلى حد يجعلها ترفض إتمام أعمالها الأدبية تجنبًا لمواجهة حقيقة أنه لن يكون موجودًا لقراءتها.

يعلن الغضب عن ذاته في تساؤلات حول ما تعنيه الحياة بعد رحيله، تتأمل حياة الغائب وسعادته المنقوصة، وتكتشف العالم بعين جديدة تدرك محنة الفقد والوحدة، ثم تستعيد الكاتبة تلك الأيام التي سبقت الوفاة وترسم سيناريوهات بديلة لما كان؛ تتمنى لو تركت للراحل مساحة للتعبير عن آلامه ومخاوفه بدلًا من إدعاء مستمر بأن كل شيء على ما يُرام، وتندم لأنها لم تلتقط صورًا كافية معه تسجل لحظاتهما الأخيرة معًا، يتجلى الحزن في هيئة ندم لا سبيل لاجتنابه بعد أن وُضِعت كلمات النهاية في لحظة مفاجئة.

وعلى الرغم من التماسك والصلابة اللذين تحاول الكاتبة إظهارهما طوال رحلة الألم، فالتشتت والأسئلة المبعثرة بلا إجابة لا يغادرانها، تتساءل "أين هي عاداتي؟ كيف أعيد الحياة لتفاصيل يومي، وكيف أكسب معركتي مع نفسي؟ إلى أن تصل لمرحلة قبول الفقد بصعوبة، تقول "أظن أني اكتشفت ما كنت أحاول إخفاءه عن نفسي، أني أنتظره بلا أمل وأنا أعرف يقينا أنه غير عائد".

منحة الحياة

رحلة آلام الفقد التي مرّت بها الكاتبة وسطرتها في عملها الأدبي، هي مرثية تمنح لمشاعر الألم حقها في الظهور والتجلي واعتلاء سطح التعبير والحياة، بقدر ما تزخر بالكثير من الأمل والامتنان للحياة والنظرة الى الموت باعتباره محطة سيؤول اليها قطار العمر مهما طالت مدة مسيره، وهو ما يجعل من اقتناص كل لحظة في الحياة ضرورة وتقديرًا للمنحة؛ "منحة الحياة تتجدد كل يوم، فمن شاء اقتنصها بعنفوان ومن شاء أهدرها".