رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ويسألونك عن الفِطرة السوية

الفطرة هى منحة من الخالق أودعها فى النفس وقت أن خلقها، وتنطوى الفطرة السوية على مجموعة ضوابط سلوكية من شأنها حماية النفس من جنوحها والحد من حماقتها وحماقة المحيطين بها فى معترك الحياة، بل وهى وسيلة للتعايش السوى بهدف استمرار النوع.

تكاد تشبه الفطرة وتماثل الرصيد المُودع سلفًا فى شريحة هاتفك النقال وقد اشتريتها للتو، إذن الفطرة رصيد سابق لخلقك، وإذا أتيت الدنيا ولم تؤتِ موبقات ولا مظالم ولا معاصى، فهذا الرصيد يكفى لدخولك الجنة.

تكمن فلسفة الخالق فى الحفاظ على هذا الرصيد، وليس فى إتيان مكاسب إضافية، والدليل على ذلك هو أن الطفل الذى لم يتلوث بمدركات الحياة لو مات فالفطرة تضمن له الجنة.

إذن يكمن القصد الربانى فى أن تجتهد بألا تنتقص من هذا الرصيد لتنال الجنة، وليس كما أفهمنا أنصاف العارفين بأنك خُلقت لتُعلى الرصيد لنيل النعيم فى الآخرة. إذن منوط بك أن تحافظ على هذا الرصيد من الفطرة وألا تستهلكه، وهذا يكفى، وليس أدل على ذلك من أن النهى الربانى عن المعاصى والموبقات يهدف إلى الحفاظ على ذاك الرصيد، وإلا لكان الله قد سمح لنا بالمعاصى شرط أن نعوضها بحسنات!! وفكرة أن الآخرة عبارة عن ميزان ترجح إحدى كفتيه للخير أو الشر لتنال موقعك فى النعيم أو النار فكرة خاطئة، وهى تصور فرعونى فى الأصل، لأن الخالق أمرك بألا تنتقص رصيد الفطرة السوية الذى أودعه فى ذمتك.

ما هى مكونات الفطرة؟ 

تتكون الفطرة من الخوف والأمان، والحب والكراهية، وأخيرًا الأنانية.. لاحظ أن هناك عنصرين متناقضين «خوف وأمان»، وزوجًا آخر من التناقض هو «حب وكراهية»، بينما الأنا الإنسانية لا يوجد نقيض معها!!

ما الفرق إذن بين الفطرة والغريزة؟ الفطرة كما أوضحت سلفًا هى مجموعة الضمانات التى تؤهلك للتعايش السوى واستمرار رسالة الإنسان فى الأرض العامرة، بينما الغريزة هى آلية تطبيق أو تنفيذ هذه الضمانات.

لنأخذ أمثلة توضح تعريف الفطرة والغريزة؛ الجنس وسيلة استمرار النوع «فطرة» فى كل المخلوقات، وعندما تتاح الظروف لتطبيق الوسيلة يكون هذا من خلال الغريزة، فتجد استثارة النوع بالنوع الآخر.. وفى مثال آخر: الجوع قد يقضى عليك، فهو محرك لبقائك ملىء بالطاقة لتستمر حياتك «فطرة»، ولكن لو حدث الجوع بسبب نضوب الطعام أو نقص الطاقة، ما هى ردة الفعل المنتظرة؟ بالطبع الإحساس بألم الجوع «غريزة» ولن تنتهى هذه الآلام حتى تأكل ويتصحح الوضع المراد بقاؤه.

هل فكرت فى سر خوف الفأر من القط بالرغم من أن معشر الفئران لم تتعلم بالتلقى أن القط هو المفترس البيولوجى المنتظر لها؟! هذه هى الفطرة التى فُطر عليها القط والفأر على شكل رصيد سابق، ويأتى بعد ذلك صراعهما للبقاء «الغريزة» فى تطبيق هذه الجانب.

تأمّل وتدبّر قليلًا وسترى أن ربك قد أفرد مساحة لا بأس بها لهذه الأمور مثل: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللّهِ التِى فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ»، وجاءت مفردات الفطرة وتحدث عنها الله قائلًا: وأطعمهم من جوع «فطرة» وآمنهم «الأمن فطرة» من خوف «فطرة أيضًا».

يتبقى وصف الأنا- أو الأنانية- وهو التفرد بالذات وقت المفاضلة، فلو أنى منتظر الحافلة مع أناس آخرين على المحطة ووصل الباص وبه مكان واحد، فتنشط عندئذ الأولوية بتنصيب مصالحى على الغير.

الأنانية هى أحد مكونات الفطرة للبقاء، ولكن هذه الخاصية يحكمها العقل، ولأن الخالق يعلم بأنها سوف تقودك لتكيل المزايا لنفسك دون الغير، فقد عالج هذا الأمر بمنتهى الحكمة الربانية.. أتدرى ماذا فعل جلّ شأنه؟

أوجد جائزة للتنازل عن المنفعة «تنحية الأنا» وقت أن يتطلب الأمر مصلحة الغير، فتجد الشرع وقد امتلأ بعائد إتيان الخير والبر والتصدق والزكاة وإسداء المعروف ومعاونة الغير، وتأكد أنك سوف تبتسم حين تعلم وتفهم أن الله قد ألحقنا بدورات تدريبية فى كيفية معالجة الأنانية.. ألم تسأل نفسك ما الفرق بين الزكاة والصدقة؟ الزكاة تربية مُلزمة للنفس البشرية أيًا كان حالك من فقر أو غنى، فزكاة الفطر واجبة حتى على الأكثر فقرًا، وكذلك زكاة المال؛ ليهون عليك هذا المال الذى شقيت فى حصاده.

وما إن تدربت على مقاومة لذة التملُّك وتقديم النفيس للغير والتنازل عن بعض من مكاسبك حتى يأتى دور الزكاة، وهنا تخاطبك النفس قائلة «تعال للتطبيق»، وهو ما يعرف بالتصدق، وهو اختيارى وليس ملزمًا كالزكاة!! بمعنى أنك تدربت، فحاول تطبيق ما تمرنت عليه فى كسر الأنانية.

وأخيرًا، لاحظ أن الله جعل عائد الأنانية مدعاة لسقوطك فى معيته أو البعد عنها عندما قال: «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا»، والطريف أنك إذا أديت الزكاة فقد أديت ما عليك ولا مكافأة، فهى عبادة ملزمة، أما لو تصدقت- وهنا الأمر طواعية- فالصدقة بعشرة أمثالها لتتشجع وتتبارى مع غيرك على كسر الأنانية!!

إذن الفطرة السوية هى برمجة النفس البشرية على إتيان السواء والتعايش مع المحيط الكونى بأدب يحترم المخلوقات الأخرى ويتجنب الصراعات ويكبح جماح النفس فى الاعتداء على الضعفاء، وهى جملة المكونات الانفعالية التى نفهمها على أنها «الشفقة».