رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«تحت الصفر».. أسرار «السنوات الكبيسة» فى حياة أسامة أنور عكاشة

أسامة أنور عكاشة
أسامة أنور عكاشة

فى ذكرى وفاته الـ١٢ ما يعرفه الجميع عن أسامة أنور عكاشة هو رأس جبل الجليد فى حياته، الشُهرة والنجومية والنجاح والحكايات الجميلة مع الكبار، لكن ما سبق تلك الأيام، كان دراما حزينة لا تختلف كثيرًا عن أقسى مشاهد مسلسلاته. 

الأب العنيف الذى يضربه ويرعب إخوته وأمه، مدرس الحساب الذى يضربه بالعصا يوميًا، إصابته بمتلازمة «الشقيق الأوسط» الذى لا يرى «الحياة الحلوة» للابن الأول ولا يلقى «دلع» آخر العنقود، ثم وفاة أمه وشقيقته «شريكة الطفولة الجميلة». 

أنهى طفولته الصعبة معتقدًا أن القاهرة ستفتح له ذراعيها بعدما التحق بجامعة عين شمس، ليتلقى صدمات متتالية، بدأت برفضه فى قسم اللغة الإنجليزية، وطرده من شقة خاله، ورسوبه فى مادتين بالسنة الأولى، إلى جانب الأزمات المادية التى كان يفرضها عليه والده، لأنه يعتقد أن «القرش فى يد الولد مفسدة»، ونَشْل أول راتب تقاضاه فى حياته. 

كان قرار تعيينه فى وزارة التربية والتعليم بأسيوط «طوق نجاة» يشعره بالقليل من الأمان فى عالم غدَّار، نال منه وفرض عليه كل شروطه، وأجبره على تنفيذها، رغم أنه لم يتجاوز الـ٢١ عامًا، حتى إنه أحب فتاة، وارتبط بها، تقليدًا لصديقه الذى حضر حفل زفافه، رغم أنه كان يرى أن الزواج المبكر- فى ظروفه- «قفزة إلى المجهول».

كانت حياة أسامة أنور عكاشة مجموعة من القفزات إلى المجهول، وسط بحثه عن «لقمة العيش» التى عصت عليه كثيرًا، حتى إنه كان يبحث عمن يسلّفه «ربع جنيه» حتى يُطعم أولاده، وهو الأب العائد من الكويت، وينتظر منه الجميع أن يكون مليونيرًا، لكنه عاد دون رجعة، كان يتبع شغفَه، رغم أن الآباء لا يفعلون ذلك، حتى يعيش أبناؤهم حياة أفضل من التى عاشوها. يمكن أن تقسم حياته إلى ما قبل وما بعد.. عام ١٩٧٦ كان كلمة السر، فما قبله كان شقاءً مريرًا، ونفقًا مظلمًا، وتوترًا، وقلقًا، وقفزات غير محسوبة رواها الكاتب مختار أبوسعدة فى كتابه «أسامة أنور عكاشة.. أسراره وحياته»، أما ما بعده.. فكان أسامة أنور عكاشة الذى نعرفه. 

أدمن الوحدة وتلقى «علقة يومية» فى طفولته وعُطل السيارة منعه من رؤية أمه قبل وفاتها

كان الطفل أسامة، المولود عام ١٩٤١، ينتمى لبرج الأسد، ويحمل جميع صفاته: الثقة بالنفس، الطموح اللافت، الجاذبية والأناقة والتألق، الإخلاص والحنان، والقيادة، والميل للهو والفكاهة. 

وصفات «الأسد» الذى ينتظر الانقضاض على أحلامه.. كانت بلاءً وحملًا ثقيلًا على أسامة منذ ميلاده حتى اكتشاف قدراته فى الكتابة.

التحق بالكُتَّاب، فكان يتلقى الضربات بـ«الفلكة» كلما طلب منه الشيخ التسميع، ويتساوى فى ذلك تسميع القرآن الكريم أو جدول الضرب. عدم قدرته على الحفظ، أو الالتزام بالمذاكرة، جعل الكُتَّاب ذكرى كارثية فى حياته، وحين التحق بالتعليم الإلزامى «الابتدائى»، كان طالبًا «بليدًا»، تحديدًا فى مادة الحساب، فكان ينسى كل شىء، بدءًا من جدول الضرب حتى نظرية فيثاغورث، وتحوَّلت «فلكة» الشيخ إلى «خرزانة» الأستاذ وليم غبور. 

على عكس جميع الفصول.. كانت مادة الحساب هى الحصة الأولى يوميًا، يهمل عمل الواجب، ويتلقى كل صباح «علقة ساخنة»، والضرب كان يدفعه إلى «التزويغ» من المدرسة، ولعب الكرة الشراب فى حوارى كفرالشيخ، وكى يبرِّر عدم نجاحه فى الحساب بدأ يشكو الأستاذ وليم لوالده، ويقول إنه يضربه دون سبب، ليذهب إلى المدرسة ويحاول الاشتباك معه، ويحصل منه على تعهّد بعدم التعرض لنجله بشرط «عمل الواجب».

بتلك الشكوى، يدارى «أسامة» على والده، أنه كان يهرب من المدرسة للعب الكرة، فوالده كان نسخة مصغرة من جده، وجده «غازى عكاشة» نسخة مكررة من «سى السيد».. شديد القسوة، وعلى وجهه «تكشيرة» لا مثيل لها، وكلما سافر لأى ظرف عائلى أقامت بناته فرحًا عامرًا بـ«الرقص والطبل»، لأنه كان يتّبع أسلوب «العقاب الجماعى»، فكلما أخطأ فرد تعرض الجميع للضرب، حتى إن زوجته طلبت من نجلها «والد أسامة» أن يزوّج أباه: «يا أنور يا ابنى جوّز أبوك وابعده عنى»، لأنها كبرت فى العمر ولم تعد تتحمّل معاملته السيئة.

ورث والد «أسامة» تلك الصفات هو الآخر: كان يعامل زوجته بقسوة وتزوج عليها، يضرب الجميع بعنف، ويضع جلدة فوق الدولاب، ويضربه وأشقاءه- ويعذّبهم صباحًا ومساءً دون سبب. 

كانت والدة أسامة أنور عكاشة مصابة بمرض «صمامات القلب»، وحذّرها الأطباء عدة مرات من الحمل والولادة، ورغم ذلك أنجبت ٤ مرات.. متمردة وعنيدة تعيش مع رجل عصبى، تدهورت حالتها الصحية، وانفجر زواجهما حين تزوج عليها. لم تتحمل، فماتت بعد زواجه بأشهر.

وكى تكتمل قسوة المشهد الأخير فى حياتها، طلبت من شقيقها رؤية ولديها- أسامة وأميمة- للمرة الأخيرة، وكانت تُقيم فى طنطا، وهما- برفقة والدهما- فى كفرالشيخ، وفى الطريق بين المدينتين، تعطلت السيارة بشكل مفاجئ، ودام العطل ساعتين، انتهى فيهما كل شىء، وخرج «السر الإلهى». 

وبكى «أسامة» ولم يكن بكاؤه على أمه بقدر ما كان لما سيتعرض له بعد رحيلها. 

شعر بـ«النقص» وأصبح طفلًا وحيدًا، منعزلًا، و«برَّاويًا». 

ولم يكن يعتزل الغرباء فقط.. امتدت عزلته ورغبته فى الوحدة إلى البيت.

شعوره العميق بأن والده هو السبب فى وفاة أمه كمدًا جعله يتحاشى رؤيته.. فكان يحمّله- بينه وبين نفسه- مسئولية موتها.

كان مصابًا بـ«عقدة الأخ الأوسط».. والده أحرق كتبه ومجلاته.. وحلق شعره بسبب القراءة

الوحدة دفعت أسامة إلى القراءة.. والقراءة قادته إلى الكتابة. 

كان كل شىء مرتبًا ترتيبًا سماويًا.. موت الأم المُخيّب للآمال والقاتل للسعادة كان سرًا من أسرار أسطورته التى بدأ تحقيقها بعد ٢٠ عامًا. 

بدأ يخلو بنفسه فى غرفته، ويقرأ عدة روايات ومجلات كـ«روزاليوسف» و«اللطائف المصورة» و«الكواكب» و«البلاغ».. يغلق الباب، ويقرأ بالساعات، وفى وقت قياسى، أنهى جميع روايات الهلال، و«النظرات» للمنفلوطى، و«الأيام» لطه حسين، وكُتب الجيب، والروايات المترجمة، ويسمع تمثيليات وبرامج إذاعية، ويعجبه «بابا شارو»، رغم أنه فى الثامنة من عمره، العمر الذى يلعب فيه الأطفال البخت، ولا تتجاوز ثقافتهم كلام شيوخ الكُتَّاب. تفاعل «أسامة» مع كل هذه المدخلات فى رأسه، حتى بدأ يكتب أول قصة فى حياته، وكتبها على ورق كانت ترسله شركة المياه الغازية كهدايا لمحل والده.

وفى ذلك الوقت، بدأ أبوه يشعر بالذنب تجاهه وأشقائه، بسبب قسوته على أمهم، ورحيلها وهم أطفال، وزواجه عليها فى حياتها، فطالب زوجته الثانية بحسن معاملتهم، ومنحهم رعاية كاملة، وهدَّدها بالطلاق إذا اشتكى منها أحدهم، فلم تكن بالنسبة له «زوجة الأم» الشيطانة التى تملأ بيوت الضرائر، إنما «بديلة» طيبة لأمه.

ساعدته كى يحصل على ٥٢٪ فى الثانوية العامة.. وكان المجموع يسمح له بالالتحاق بكلية الآداب جامعة عين شمس، وعكّر سعادته وفاة شقيقته، وسره، أميمة، التى تزوجت مبكرًا، ثم ماتت، فأُصيب بصدمة لازمته طويلًا. 

وبعيدًا عن حنان الشقيقة، ورث «أسامة» من والده القسوة، فكان يعامل شقيقه الأصغر «أحمد» معاملة سيئة، وهكذا كانت تدور دورة القهر فى بيت أنور عكاشة. 

الأب ظل يضربه حتى التحاقه بالجامعة، فيسىء معاملة شقيقه «أحمد»، حتى يعرف الأب فيعاقبه.

فى أحد أيام امتحانات أولى ثانوى، دخل الأب غرفة أسامة يسأله عن المذاكرة، فوجده منهمكًا فى القراءة، سأله: ها يا أسامة، بتذاكر ولا لأ؟.. فأجابه: آه طبعًا بذاكر.

ولأن مؤشر الثقة بينهما كان صفريًا، طلب منه رؤية الكتاب الذى يقرأ فيه، ليُفاجأ بإحدى روايات الجيب، ويكتشف أنه لا يذاكر فى ليلة الامتحان، فصفعه منفعلًا: «هى دى المذاكرة يا ابن الكلب؟»، وظل يضربه بالأقلام على وجهه، وجمّع كل رواياته ومجلاته وحرقها فوق سطح المنزل، وقصّ شعره حتى يشوّهه نهائيًا، وهو يعرف أن شعر أسامة سر من أسرار جاذبيته.

وفى موقف آخر، وضع أسامة وزملاؤه «حرباية» حية داخل حقيبة يد مدرس اللغة الفرنسية، مسيو ألبير، وعندما وضع يده باحثًا عن شىء، لمس شيئًا يتحرك بين يديه، وحين رأى الحرباية، صرخ صرخة مدوية، فأصدرت إدارة المدرسة قرارًا بفصل جميع طلاب الفصل، وكان أسامة فى المقدمة.

لم يكن أمامه سوى إبلاغ والده كى يحضر لمقابلة ناظر المدرسة، وقال إنه لا يعرف السبب.

انتهى الأب من حديثه مع الناظر، الذى أمر أسامة بدخول الفصل والالتزام. وفى الفصل، مرّ عليه والده، وقال له: «تعالى لى المحل بعد المدرسة».

وفى المحل، انهال عليه بالضرب بـ«شمسية» دون رحمة.

وبانفعال شديد، أمسك أسامة الشمسية بقبضة يده وأصابه بنظرات غاضبة: «كفاية بقى! كفاية! أنا مش تلميذ صغير عشان تقعد تضربنى كده». شعر والده بأنه يثور ضد أوضاع قديمة لن يهدأ إلا حين تتغير، وفهم أن فصلًا جديدًا من حياة ابنه بدأ، وقرر أن يتغيّر.

صدمات القاهرة: رسب بالجامعة وخاله طرده من شقته 

القاهرة- بالنسبة إلى أسامة أنور عكاشة- كانت الحرية. 

فى الجامعة، سيخرج للمرة الأولى من السلطة الأبوية، ويمارس كل شىء كان محرومًا منه فى حياته بكفرالشيخ أو يمارسه سرًا، سيدخّن، ويمضغ اللبان، وينظف أسنانه بالمعجون كالأولاد الفرافير. استيقظ من هذه الأحلام على صوت والده، وهو يحذره من أن رسوبه فى أى سنة دراسية بالجامعة، سيؤدى إلى بقائه فى كفرالشيخ، وعمله معه فى المحل، وحرمانه من الجامعة.

أنقذه القدر من قسوة والده وفرماناته، ليُلقى به فى شرور الحياة الجامعية التى لا تعترف بقدراته وهواياته. 

حبه للأدب المترجم زيّن له الدراسة بقسم اللغة الإنجليزية كى يقرأ الروايات بلغتها الأصلية، لكن درجتين نقصهما فى الثانوية العامة جعلتاه غير مؤهل للالتحاق بالقسم. دق باب الدكتور لويس مرقص، رئيس القسم، وشرح له مشكلته، فسأله: لماذا تريد- بكل الطرق- الالتحاق بالقسم؟.. فأخبره بعشقه للأدب الإنجليزى. ابتسم الدكتور، وسأله عن الأعمال التى قرأها، ذكر له أسماء لم تكن معروفة فى مصر، وأخرى شهيرة عالميًا، ويصعب على من فى عمره فهمها، وكان ينصت إليه باهتمام جعل «أسامة» يتأكد أنه سيلتحق بالقسم، طلب منه كتابة طلب التحاق بالقسم، ووعده بمنحه استثناءً فى أول اجتماع مع أساتذة القسم.

غادر أسامة الجامعة فرحًا على المكسب الذى حققه، وبدأ يحضر بقسم اللغة الإنجليزية، رغم أنه ليس مسجلًا به، متخيلًا أن وساطة رئيس القسم ستسمح له بدخوله بلا شك، حتى فوجئ بقرار رفضه.. وكانت الصدمة الأولى فى حياته الجامعية.

الصدمة الثانية كانت رسوبه فى مادتين بالسنة الأولى، حين التحق بقسم الدراسات النفسية والاجتماعية، وكان ذلك طبيعيًا بالنسبة لطالب اختار كل «الخائبين والساقطين» ليصبحوا أصدقاءه، وتحوّلت الكلية فى أجندته إلى «بوفيه مفتوح» لشرب القهوة والسجائر، وبعدما كان يقيم فى شقة خاله، تخلى عنه وطرده، ليستأجر شقة يقيم بها برفقة ١٢ شخصًا آخرين. ضيّق عليه والده ماديًا، رغم أنه كان غنيًا، فلجأ أسامة إلى الحيلة التى يلجأ لها الجميع. كان يدّعى أنه يحتاج ثمن كتب مطلوبة فى الكلية، ويحصل على الأموال فورًا، ثم بدأ يطالبه بشراء مراجع دراسية أغلى وأضخم، ليحصل على أموال أكثر يشترى بها كتبًا وقصصًا قديمة وروايات رخيصة باللغة الإنجليزية من سور الأزبكية بالقاهرة، وحين يزوره فى القاهرة ويجد مكتبته عامرة بكتب من لغات لا يفهمها، يطمئن قلبه ويغدق عليه أكثر. وكان أصدقاؤه من كليات مختلفة يفعلون الشىء نفسه، حتى إن أحدهم- وكان ملتحقًا بكلية الهندسة- كان يطلب من والده مبلغًا خرافيًا لشراء «قاعدة أرشميدس» بدلًا من التى انكسرت منه. 

كان يبحث عن «ربع جنيه سلف» يوميًا لإطعام أولاده

تخرج أسامة أنور عكاشة فى الجامعة، وعرض عليه والده «مطحن بن» مجانًا بدلًا من العمل فى مجاله، والالتحاق بوظيفة حكومية، بحجة أن «العمل الحكومى لن يدرَّ عليه دخلًا محترمًا» وكأنه يريد أن يجعل أسامة نسخة ثانية منه، فرفض، وأدى ذلك إلى قطيعة طويلة بينهما. 

التحق بالعمل فى أسيوط مدرسًا للفلسفة، رغم أنه لا يفهم فيها شيئًا، وهو بالأساس إخصائى اجتماعى، وبسببه، ضاع العشرات من طلاب الثانوية. ولم يقدر على الإقامة هناك حتى نهاية العام الدراسى لأنه لم يتحمل حرارة الجو وزوجته أُصيبت بما يشبه الاكتئاب وعانت من الناموس، هرب من التربية والتعليم، وقدّم استقالته، لكن الوزارة رفضتها، وقدّمته للمحاكمة التأديبية، وتركها فى النهاية ليبدأ البحث عن طريقة للعودة إلى القاهرة ليعمل كاتبًا.

وبعد هزيمة ٦٧ وقع «أسامة» فى بئر الإحباط، وتدهورت أوضاعه المادية، رغم أنه كان يعمل موظفًا بجامعة الأزهر، وبدأ الحصول على قروض من صراف الجامعة، ويرسل زوجته لتقترض من خالها، ويتعامل مع صيدليات وبقالات «على النوتة»، ويقتصد فى التدخين للتوفير، ومنذ زواجه، أضرب عن شراء ملابس جديدة، وكان يرتدى ملابس «ما قبل الزواج»، ويبيع استمارات كسوة القماش، التى تُمنح للموظفين، ويحصل على قيمتها لشراء الوجبات الأساسية. 

١٣ عامًا، امتلأت خلالها حياة «أسامة» بالتباديل والتوافيق، ومحاولات البحث عن القرش، يسد به احتياجاته، ويشترى به طعامًا لأولاده، لا أهداف أخرى سوى إطعام الأولاد، حتى إنه كان ينزل ليلًا يمشى فى الشوارع، يفكر ويبحث عن أى قريب وصديق يسلّفه ٢٥ قرشًا ليشترى عشاءً بسيطًا لـ«هشام وأميمة وأمل»، وبعد عودته بأكياس العيش والجبن، يبدأ التفكير فى كيفية تدبير غداء وعشاء اليوم التالى. وحين مرضت ابنته «أميمة» وسببت لها التهابات اللوز الحمّى، ولم يعد هناك بديل للجراحة، بينما يقف عاجزًا لعدم قدرته على تدبير المبلغ، تذكّر استمارة «الكسوة» التى تصل قيمتها لـ٣٥ جنيهًا، وأصدرها فى اليوم التالى، وقضى اليوم بالكامل فى البحث عن «دلَّالة» تشتريها منه، وتملكه اليأس، حتى وجدها أخيرًا، فساومته، وأخذتها بـ٢٥ جنيهًا فقط، وأجرت ابنته الجراحة.

 كيف سرق جواز سفره وفشل فى تحقيق «حلم المليون»؟

ظل شغفه بالروايات والحكايات يؤلمه، الوظيفة تلتهم وقته، الضغوط تمنعه من الكتابة، كل شىء يقف ضده حتى حصل على منحة تفرغ عام ٧٣ لكتابة رواية، وزادته المنحة فقرًا، فلم يجدّدها، ورفع سماعة هاتفه للمرة الأولى يستجدى عملًا.

اتصل بصديقه الجامعى المقيم فى الكويت، محمد شعلان، وطلب منه «عقد عمل»: «يا محمد.. هو أنت سايبنا نغرق.. أنا هنا بعانى، ويا ريت تشوف لى عقد عمل فى الكويت».

الأسعار تضاعفت، ووصل سعر كيلو اللحم إلى جنيه، وهتف المتظاهرون: «سيد بيه يا سيد بيه كيلو اللحمة بقى بجنيه»، وصار البحث عن عمل فى الخليج موضة العصر، والطريقة الوحيدة لتأمين مستقبل الأولاد، وركب أسامة سفينة النجاة، وغادر القاهرة إلى الكويت عام ١٩٧٤، بعد حصوله على عقد عمل بمؤسسة الصبَّاح الإعلامية، براتب ١٥٠ دينارًا «٩٠٠ جنيه مصرى».

نقلة مادية لم يحلم بها طوال عمره، وكانت كالحلم الذى مسّه وضاعف طموحاته حتى إنه بدأ يفكر كيف يصبح مليونيرًا، لكن أول خطوة خطاها فى مطار الكويت الدولى حملت أسباب رحيله وعودته إلى القاهرة بعد أشهر. 

شعر بالغربة، ودرجة الحرارة التى تتجاوز ٥٢ مئوية أتعبته، فالرجل الذى لم يتحمّل حرارة أسيوط، لم يحسب الأمور قبل صعوده الطائرة إلى الكويت، وكان يسخر ويغضب ويقول: «طالما أنكم عندكم أموال كثيرة، المفروض أن تقوموا بتسقيف الكويت كلها وتعملوا لها تكييفًا مركزيًا».

وكان يعتبر بقاءه هناك «دوامة جهنمية» تسحب الإنسان بداخلها، حتى ينسى شغفه وأحلامه ويتنازل تدريجيًا عن مشاعره، ويتفرغ للعمل كى يجلب أموالًا فقط، وبدأ يفكر كيف يترك الكويت بأقصى سرعة، رغم أن عمره فى الغربة لم يتعد ٣ أشهر، حصل خلالها على غرفة للمعيشة، وطلب مغادرة العمل، فعرض عليه مديره زيادة راتبه، ورفض منحه جواز سفره. 

اكتملت الدائرة، وأحكمت غلقها عليه بحلول شهر رمضان. لأول مرة فى حياته، يقضيه خارج مصر، وهو الرجل الأسرى الذى لا يفرّط فى صحبة أبنائه، بكى بحرقة، وقضى الليلة وحيدًا، وفى منتصف ليلة ٣ رمضان، سرق جواز سفره. 

غرفته كانت داخل مؤسسة «الصباح»، فقام ليلًا وكسر درج أحد المكاتب التى تحتوى على أوراق العاملين الوافدين، وأخذ باسبوره، وارتدى ملابسه، وأسرع إلى مطار الكويت، وحجز تذكرة أقرب طائرة.. ثم طار إلى القاهرة، وخرج ولم يعد أبدًا.

كانت عودته من الكويت «فضيحة» جعلته محلًا للسخرية والمعايرة من الجميع، حصل على فرصة يحلم بها كل الناس، ولم يتحمل الحياة فأهدرها، وعاد مفلسًا، وكان والده أول الساخرين والغاضبين منه: «آه يا أسامة، ما أنت معمول من بسكويت، عشان كده مقدرتش تتحمل الغربة والحر يا عينى يا ابنى».