رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قصة العداء الذى انقلب إلى صداقة بين الشعراوى والحكيم

الشعراوى والحكيم
الشعراوى والحكيم

فى كتاب «توفيق الحكيم يتذكر» للكاتب الكبير جمال الغيطانى، يتحدث أحد أهم الكتاب الذين جاءوا فى تاريخ مصر والعرب توفيق الحكيم عن نقاط كثيرة فى حياته، عن طفولته، وعن زواجه ثم موت زوجته وابنه، وعن بداية احترافه الكتابة، وعن رؤيته للفن وأشياء أخرى.

ولكن ضمن تلك الحكايات التى يرويها الحكيم للغيطانى، حكاية البلاغ الذى تقدم به إلى النائب العام ضد الشيخ محمد متولى الشعراوى.

فى يوم ٦ مارس عام ١٩٨٣ قال الشيخ الشعراوى فى عدد جريدة اللواء، تعليقًا على ما كتبه توفيق الحكيم من مقالات بعنوان «حديث مع الله»: 

«لقد شاء الله سبحانه وتعالى ألا يفارق هذا الكاتب الدنيا إلا بعد أن يكشف للناس ما يخفيه من أفكار وعقائد، كان يتحدث بها همسًا ولا يجرؤ على نشرها، ولقد شاء الله ألا تنتهى حياته إلا بعد أن يضع كل خير عمله فى الدنيا حتى يلقى الله سبحانه وتعالى بلا رصيد إيمانى».

بعدما قال الشيخ الشعراوى هذا الكلام بأيام، رأى الحكيم أثناء عودته إلى منزله رجلًا ينظر إليه ويطيل النظر، وعندما سأل حارس العقار عمّن يكون هذا الشخص؟ عرف الحكيم أنه مخبر عينته الشرطة لحمايته، هذا قبل أن يتم تعيين حراسة له، فبعد أن قرأ الجميع حديث الشيخ الشعراوى عن توفيق الحكيم، رأى كثيرون- أولهم السلفيون والمتشددون- أن توفيق الحكيم كافر ومرتد، وأصبح من الممكن اغتيال توفيق الحكيم فى أى لحظة، لأنه من وجهة نظر البعض أصبح دم الحكيم مستباحًا، ويجب التخلص من شخصه، وعليه قامت الشرطة بتعيين الحراسة لحماية الحكيم، الذى شعر بأن حياته فى خطر.

كل هذا من أجل عدد من المقالات نشرت فى جريدة الأهرام بعنوان «حديث مع الله»، كان أبرز ما قاله الحكيم فى تلك المقالات ما يلى:

«إنها قدرتك يا ربى أن تقرر كن فيكون، وإنى لا أسألك رد القضاء، ولكنى أسألك اللطف فيه، ودينك دين اللطف والرحمة، والواجب الأسمى لرجال دينك أن يغرسوا فى قلوب الناس رحمتك ولطفك، وأن الحب لك، وليس فقط الخوف منك هو المدخل لرضاك، ولكن أكثرهم يغالون فى تصوير ما يخيفهم منك أكثر من تصوير ما يحببهم فيك، فأقاموا الإسلام على الخوف أكثر مما أقاموه على الحب، وليس هذا ما قصدته أنت ولا ما عمل من أجله رسولك، صلى الله عليه وسلم، بقولك ولسانه (لا إكراه فى الدين)، والإكراه لا يمكن أن يكون أساسًا صادقًا للحب».

هذا ما قاله الحكيم، حيث يرى عبر حديث من العبد إلى الإله أن الإيمان الحقيقى يجب أن يقوم على الحب لا على الإجبار والخوف، لأننى لو آمنت بالله لمجرد خوفى منه فسيكون إيمانى ناقصًا، لأنه جاء عن غير اقتناع، وأن الإيمان الحقيقى يكون بحب المخلوق لخالقه.

أما الشيخ فقد رأى أن الحكيم أخطأ، وأنه ضال مضلل وأنه يحارب الثوابت، لأنه لا يجب أن يتحدث العبد مع الإله كما يتحدث أى شخص مع شخص آخر وحتى لو عن طريق الكتابة الأدبية، أى أن المناجاة بين العبد وربه يجب أن تكون بقواعد، فهل حقًا كتب الشعراوى ما كتب لأنه رأى أن الحكيم تخطى حدود الأدب بين العبد والخالق؟ أم لأن حديث الحكيم عن تصوير المشايخ للإله لم يكن من نفس منظور الشعراوى؟!

بل إن الشعراوى تمادى فى حديثه وهجومه، حتى وصل إلى حد تكفير الدولة نفسها، وقد ذكر هذا الكلام الصحفى الكبير وائل لطفى فى كتابه «دعاة عصر السادات»، والذى جاء فيه أن الشيخ الشعراوى قال:

«لقد فتحت النار على هذه الحوارات لأنها دعوة للكفر والتطاول على الذات العلية، ولو أن الدولة كانت تحتضن الدين كما احتضنت نظامًا، وفرضته، لما استطاع واحد مثل هذا الكاتب أن ينال من الدين الحنيف».

وواصل الشعراوى:

«إن الدين ليس له صاحب فى مجتمعنا، بدليل أن المنسوبين إلى الدين عندما تعرضوا لنظام الحكم سُجنوا».

هكذا فإن الشيخ يدين بهذه الحادثة التى بدأت عن طريق كاتب «مخلوق» يتحدث ويناجى ربه «خالقه» إلى اتهام المجتمع والدولة ككل، واصفًا الدولة بأنها تحارب الدين، بل وتسجن وتقهر المتحدثين باسم الدين.

وهكذا أقيمت حرب بين المثقفين وبين الشيخ ومحبيه، لدرجة جعلت الأديب الكبير يوسف إدريس يصف الشيخ الشعراوى قائلًا إنه ممثل نصف موهوب لديه قدرة على إقناع الجماهير البسيطة وقدرة على التمثيل بالذراعين وتعبيرات الوجه، والقدرة على جيب كبير مفتوح دائمًا للأموال، وذكر إدريس بعض المواقف للشيخ التى تدعم أى قرار يتخذه الحاكم، وتحديدًا السادات.

أما هذا السجال فقد انتهى بتراجع المثقفين عن موقفهم؛ لدرجة جعلت إدريس يقول إن كل ما تم نشره على لسانه هو مجرد خطأ مطبعى، وأنه يعتبر الشعراوى شيخًا جليلًا كبيرًا، وتوفيق الحكيم تراجع هو الآخر بعد أن رأى أنه أصبح غير آمن على حياته.

ولكن فى كتاب «توفيق الحكيم يتذكر» يقول الحكيم ليلخص تلك القضية:

«لكى تثار قضية يجب أن تكون هناك تقاليد ديمقراطية راسخة، لم يكن الأمر كما كان فى منتصف القرن الأول، إننا نعانى من خمول فكرى، وهذا الخمول من أشد الأنواع خطرًا، وإذا كان لهذا الخمول الفكرى فكر فهو ما يمكن أن نسميه الفكر الغوغائى».

إن هذه الحادثة ليست الأولى ولن تكون أبدًا الأخيرة فى تاريخ الوطن العربى، ويبقى السؤال الخالد، لماذا يخشى رجال الدين أن يتحدث غيرهم عن الله أو الدين؟ 

فإذا نظرت إلى تلك الحكاية التى وقعت بين واحد من أشهر رجال الدين فى العصر الحديث وبين الكاتب الكبير توفيق الحكيم، رأيت أن تلك الحكاية بكل تفاصيلها تلخص لك مدى الذعر الذى يعيش فيه الفنان داخل وطنه.

فالفنان مقيد بالعديد من الأشياء التى تعرقل إبداعه، أول هذه الأشياء هى تهمة مس الثوابت الدينية وازدراء الأديان، والتى على أساسها يمكن أن يتم اغتيال الفنان بكل الأساليب لمجرد أنه يناجى ربه، فى حين أن رجال الدين دائمًا ما نرى الأشخاص يتعاملون معهم بصفتهم جزءًا وركيزة أساسية من الدين، وليسوا كأشخاص طبيعيين يمكن أن يتسلل الخطأ إلى أفعالهم وآرائهم وأحكامهم، مهما كانت براءتهم، ويجعل الناس يغضون أبصارهم عن كل الأخطاء والتناقضات التى يمكن أن تصدر عن رجل الدين، وإذا كنا بصدد الحديث عن واقعة الشيخ الشعراوى وتوفيق الحكيم، فهنا قد عرفنا لماذا وكيف تراجع الحكيم متقهقرًا هو والمثقفون فى مناقشتهم التى كان الشيخ الشعراوى الطرف الثانى فيها، ونرى أيضًا عن طريق تلك الواقعة كيف زادت قدسية من يرتدى عمامة الدين.

ولكن يبقى السؤال، إلى متى سيظل الفنان محاصرًا ومراقبًا من كل الجهات؟ ومتى يمكننا أن نقول إننا نستطيع إقامة مناقشة مفيدة ونافعة بين طرفين مختلفين، ولا يتسلل التكفير أو الغوغائية إليها؟ متى؟!