رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصطفى عبيد «ضد التاريخ»: حاولت إرساء التعددية وكسر الآحادية الحاكمة للفكر العربي (حوار)

الكاتب الصحفى مصطفى
الكاتب الصحفى مصطفى عبيد

من الشعر إلى الرواية الى الصحافة.. تجارب ومحطات متعددة فى حياة مؤلف كتاب "ضد التاريخ" الصادر مؤخرًا عن الدار المصرية اللبنانية للنشر، والذى وضع له عنوانا فرعيا شارحا “ تفنيد أكاذيب السلطة وتبديد أوهام الشعب، وكأن تاريخنا الحديث والمعاصر – خاصة الذى كتب رسمياً – يتطلب إعادة قراءة وكتابة مرة ثانية.. إنه الكاتب الصحفى مصطفى عبيد الذى قرر أن يتتبع الوقائع والأحداث فى حياة الشخصيات التاريخية بدلاً من تتبعه الآثار الإسلامية التى تخصص فيها بكلية الآثار جامعة القاهرة.

عن شخوص كتابه الجديد "ضد التاريخ"، كان لنا هذا الحوار:

بداية ما الدافع وراء تقديم رؤية مغايرة للتاريخ وانتقاء شخصيات كتابك الجديد "ضد التاريخ"؟  

الدافع الأول للكتاب هو إرساء التعددية وكسر الآحادية الحاكمة للفكر العربي في شتى المناحي سواء فكرا دينيا أو سياسيا أو تاريخيا، ذلك لأن الشيوع والتمدد الواسع للتيار الديني في المجتمعات العربية سببه الأول هو أحادية الفكر وتنشئة أجيال من البشر عبر سبعة عقود على فكر واحد ورأي واحد وصوت واحد وحزب واحد. 

وليس أدل على ذلك في مصر من أن جماعة الإخوان المسلمين قضت بعد تأسيسها في 1928 أكثر من عشرين عاما في مصر لا تجد قدرة على التمدد والتأثير في الشارع لأن خطابها كان آحاديا بينما كانت النخبة مشبعة بالتعددية.

وبعد يوليو 1952 تحولت مصر إلى فكرة الكل في واحد، وصار الحزب واحدا والطرح واحدا والفكر واحدا هو ما يعبر عن السلطة، ومن ثم صارت الآحادية الحاكمة للمجتمع مناخا ملائما للجماعة أن تتمدد وتنتشر وتهيمن على مصر على الرغم من الضربات الأمنية التي تلقتها، لنصل إلى مجتمع شبه متأخون بالكامل في الثمانينات. 

أنا ابن هذه المرحلة شببت لأجد الخطاب الديني زاعقا ومهيمنا على كل شىء، رأيت الناس إما مع أو ضد، وكان تقديرهم للشخصيات التاريخية إما أبيض أو أسود، وهذا ما جعلني أبحث عن الآخر، وأستقرئه، وأعيد قراءة ما طرحه ورفضه السابقون. لقد كنت مدفوعا بتأكيد أن الآحادية هي سبب تخلفنا وأننا مدعوون جميعا ـ نخبة وكتابا ـ إلى التفكير فيما وجدنا عليه آبائنا. إن القرآن الكريم أنكر على الأمم الضالة قولهم إن دعوا إلى دين جديد أنهم يسيرون على ما سار عليه آبائهم دون تفكير أو تمحيص، ونحن للأسف الشديد وصلنا بفضل أحادية الفكر إلى قطيع يرفض كل طرح جديد ويستعذب تكرار السائد دون تشغيل للعقل. 

كانت فلسفتي القائمة هي أن التاريخ تحديدا علم نسبي، لا يحتمل الرواية الواحدة وحاولت تقديم أمثلة عديدة لما لروايات تبدو غير مألوفة لدى الناس ومخالفة لما هو سائد، انطلاقا من قراءة جديدة تضع في خلفيتها المنطق والعلم والأخلاق كمعيار لإعادة تقييم الأفعال. وهنا فقد كانت إشارتي مثلا إلى أن مصطفى كامل ليس زعيمًا وطنيا قائمة على انسحاقه ونفاقه للسلطة القائمة وقبوله للتمويل منها وعداءه للقوى الوطنية الحقيقية ممثلة في أحمد عرابي ورجاله. 

كذلك فاستنادا للأخلاق الحميدة التي تعتبر قتل الأطفال والنسوة عارا كتبت في فصل سليمان خاطر أن هذا الرجل إرهابي مهووس بالدم ولا يمكن تسميته بطلا مثلما ذهب السابقون من أصوات الحناجر الزاعقة لأنه قتل أطفالا صغارا بدم بارد دون معركة، حتى لو كان الضحايا إسرائيليين، فذلك لا يمنع أنه قاتل خسيس يغرقنا عارا.

ماذا يقصد الكاتب مصطفى عبيد فى عنوان كتابه بـ"أكاذيب السلطة".. وهل لها علاقة بتزييف التاريخ رسمياً ؟

أكاذيب السلطة هي أكاذيب معتادة في كل بلد، وهي منطقية وطبيعية فمن يملك يفرض روايته، لكن بعد مرور أزمنة وتبدل دول تتفكك هذه الأكاذيب. 

وكما يقول الشاعر الفلسطيني العظيم محمود درويش" لا تكتب التاريخ شعرا فالسلاح هو المؤرخ" و" إن الذكي العبقري هو القوي"، وفي ظني فإن تزييف التاريخ أمر معتاد من كل سلطة وحسبنا أن نذكر أن الخطاب العام لثورة يوليو كان يتحدث دوما عن العهد الملكي باعتباره العهد البائد والفاسد، وكان يشير لثورة 1919 دوما باعتبارها ثورة فاشلة. 

وكان قاسيا في وصفه لكل ما فات رغم أن ثورة يوليو لم تكن لتنجح دون اتفاقية الصداقة المصرية البريطانية سنة 1936 والتي سمحت لأبناء الأسر المتوسطة بادخال أبنائهم في الكلية الحربية ليصبح منهم جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسين الشافعي وعلي صبري وغيرهم.

لكن علينا أن نؤكد أيضا أن هناك أكاذيب للشعب وللعامة قد تنتصر على روايات السلطة مثلما هو الحال في قصة ياسين وحبيبته بهية، فياسين هذا الذي خلده الموال الشعبي ما هو إلا قاتل وقاطع طريق وقاتله هو اللواء صالح حرب شقيق طلعت حرب وأحد القادة العسكريين العظماء الذين قاموا بثورة مسلحة ضد الإنجليز في 1914. 

كذلك الحال في قصة أدهم الشرقاوي فقد انتصرت الرواية الشعبية الكاذبة على رواية السلطة.

ما الآلية التى أتبعها الكاتب مصطفى عبيد فى إنتقاء مراجع كتاب "ضد التاريخ" ؟
قراءة أي حدث مضى أمر في غاية السهولة بسبب تعدد الروايات ووفرتها وإتاحتها عبر وسائل كثيرة، وكل حدث رواه صانعوه ورواه ضحاياه لكن الأعظم هو ما رواه المشاهدون والمتابعون.

والمهم والضروري هو وضع مقياس ما لتقييم الأحداث وأول شىء هو استخدام فكرة تحليل المضمون استنادا للمنطقية ويليها محاكمة الفعل أخلاقيا، هل ما حدث يتسق مع الأخلاق أم لا؟ وأتصور أن القضية ليست في إنتقاء المراجع فهي جميعا متاحة، لكن القضية في الفلسفة القائمة لقراءة الأحداث.. 

هل قدم "ضد التاريخ" رؤية موضوعية للشخصيات التى جاءت بين دفتيه.. وما مبررك فى ذلك؟

كما ذكرت فقد قدمت روايتي لبعض الأحداث والشخوص التاريخيين بمنظوري الشخصي ولا يُمكن لأحد أن يدعي أو يقول أنه قدم رؤية موضوعية أو صحيحة فهذا افتئات على حق القراء والمتلقين في التقييم وإبداء الرأي، لكن ما أستطيع قوله أنني راض فكريا وأخلاقيا عما قلت، وليس أدل على ذلك من أني انتقدت آراء سابقة لي حول اليهود في التاريخ المصري وقلت إنني كنت على خطأ فيما سبق وكتبته في كتابي " التطبيع بالبزنس" الصادر 2009 في تحميل اليهود مسئولية كل كارثة في تاريخنا.

 وأتصور أن أسوأ عبارة يمكن أن تسمعها عن شخص ما هي القول بأنه كان ثابتا على آرائه طوال عمره. إن هيمنجواي يقول لنا " إن وحدهم الموتى والحمقى هم مَنلا تتغير آرائهم". 

تناولت فى كتاب "ضد التاريخ" شخصية سيد قطب وهى شخصية مازالت الى اليوم لم تحلل بالقدر الكافى رغم تأثيره السلبى فى مجتمعاتنا.. لماذا اختارت الجانب الرومانسى من حياته على نحو خاص وأغفلت الكثير من الجوانب الشائكة فى شخصيته؟

قطعا فإن شخصية سيد قطب شخصية شديدة التعقيد، وتحتمل قراءات واسعة عديدة. لكنني اخترت الجانب الرومانسي في سيرته لسبب وحيد هو أن أحدا لم يتحدث عن دور المرأة في حياته، تحت تصور أن معاداته للمرأة في الخطاب الفكري الخاص به نابع من تشدده وتطرفه، لكن ما طرحته هو طرح يحتمل الصواب والخطأ لكنه يرد على القول بأن تحول سيد قطب الفكري حدث بسبب مقتل حسن البنا في فبراير 1949، أو بسبب التعذيب الذي تعرض له بعض الإخوان في عهد عبد الناصر، إن التيار اليساري تعرض لتعذيب مماثل في سجون عبد الناصر ولم يخرج مفكر يساري يدعو إلى الإرهاب والتفجير والدموية.

هل يرى الكاتب الصحفى مصطفى عبيد أننا فى حاجة ماسة لإعادة قراءة وتقديم تاريخنا على الأقل الحديث والمعاصر مرة أخرى؟

أرى وأؤمن أننا في حاجة ماسة لإعادة قراءة كل شىء، لا التاريخ وحده، نحن في حاجة لقراءة تصورات الحياة كلها: العلم، الدين، المفاهيم السائدة، الأعراف، والقوانين، وكل شىء. 

إن أول آيات القرآن الكريم هي "إقرأ" وهو أمر إلهي سبق الأمر بأن نؤمن لأنه لا إيمان دون قراءة، وإعادة قراءة. 


صدر لك عشرون كتابًا أغلبها فى التاريخ من أبرزها كتابه «مذكرات توماس راسل حكمدار القاهرة» وهو كتاب فاز بجائزة أفضل عمل مُترجم بمعرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2021م.. هل اهتمامك بالكتابة التاريخية يعود لكونك خريج قسم الآثار الإسلامية ؟

لا أعتقد. وإنما هي محبة والتصاق منذ الطفولة. وربما يكون اهتمامي بالتاريخ هو ما دفعني أن ألتحق بكلية الاثار.

هل فى رأيك مازالنا فى عصر الرواية ؟

أتصور أن عصر الرواية سائد وقائم، وهو يتجاوز فكرة الرواية بمفهومها التقليدي ليمتد إلى الحكاية. إن اهتمام القراء بالتاريخ هو في حقيقته اهتمام بالحكاية. والحكاية ضوء كاشف لأنها تدفع المتلقي للتفكير والبحث ووضع نفسه داخل إطار الحكاية ليسأل نفسه عن المصير المنتظر لفلان وغيره. 

والرواية بشكل عام في بلادنا تعيش فورة عظيمة متمثلة في اهتمام أجيال جديدة من الشباب بالسرد والقصة وشخوص الروايات بدرجة تفوق عن سابقيهم من أجيال. وأتصور أن هناك نماذج إبداعية لافتة في بلادنا تستحق كل تقدير واحتفاء. 

ماذا عن مشروع مصطفى عبيد المترجم الفترة القادمة ؟

أنا أعمل على شهادة جديدة لأحد الأوروبيين الذين قضوا سنوات في مصر الملكية واختلطوا بالمجتمع وقدموا رؤى تبدو جديدة ولم تترجم أعمالهم وهم كثير، وبالمناسبة فقد أسعدني بعد ترجمتي لمذكرات توماس راسل، توجه البعض لترجمة شهادات شبيهة في هذا المجال منها مثلا رسائل صوفيا لين التي زارت مصر أواخر عهد محمد علي، وقد ترجمتها خميلة الجندي وصدرت عن دار الرواق، وكتاب مذكرات البارون كوسيل مدير الجمارك المصرية في عهد الخديوي إسماعيل وابنه من بعده توفيق، وقد ترجمها محمد عي ثابت وحققها وليد كساب وصدرت عن دار إشراقة. 

وفى أى حقبة تاريخية يبحث الآن مصطفى عبيد ليقدم لنا جديد أعماله؟

أنا مهتم دوما بكل ما مضى. أقرأ كثيرا وأحلل، وأبحث عن كل ما هو جديد من شهادات في كل الحقب التاريخية، في تاريخ مصر عظيم وثري وملهم ومعلم.