رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سباق الطاقة بين روسيا وأوروبا.. مَن يصل أولًا؟

احتل ملف الطاقة المكانة الأبرز فى الاهتمام منذ اندلاع الصراع الروسى الأوكرانى، وصاحبته أسئلة وهواجس عديدة لها ارتباط بمدى الاعتمادية الأوروبية على إمدادات الغاز والنفط من روسيا، الذى بدا عشية تلك الحرب المفاجئة وكأنه بأكثر وأبعد مدى مما كان معلنًا، أو يحظى بالاهتمام الذى وضعه لاحقًا فى بؤرة الأحداث والتوازنات بمجرد البدء فى استخدام لغة السلاح. اقتصر الحديث قبيل الحرب على المشروع العملاق «نورد ستريم ٢» الذى تكلف إنشاؤه ٣ مليارات دولار، ليربط ضخ الغاز الروسى إلى ألمانيا عبر مسار جديد كى يتطور مستقبلًا ليصل إلى بلدان أوروبية أخرى، وكان قد وصل إلى مرحلة تسبق بدء التشغيل بخطوات قليلة، وظل مثار مناكفة أمريكية ألمانية تسببت فى تعامل الأخيرة مع المشروع بحرص شديد، وتحسب من إثارة غضب الحليف الأمريكى الذى مرر المشروع على مضض قبل أن يصير فور اندلاع الأزمة، على محك ضرورة مراجعته والبحث عن صيغة لإدماجه فى ملف العقوبات التى اعتمدها المعسكر الغربى بحق روسيا، التى صارت فى موقع العدو الذى يستوجب قطع علاقات الشراكة الاستراتيجية معه لحين اتضاح كامل الصورة.

عشرات التقارير الدولية المهمة صدرت خلال الشهرين الماضيين، تتناول محور ملف الطاقة داخل مجمل الصراع الروسى الأوكرانى وتداعياته، الأحدث منهم خرج من المركز الدولى لأبحاث المناخ «Ember and Global» بالأمس، وهو مؤسسة فكرية مستقلة فى مجال الطاقة يستخدم الرؤى المستندة إلى البيانات لتحويل العالم من استخدام الفحم إلى الكهرباء النظيفة. يذكر التقرير المهم أن تقديرات الاتحاد الأوروبى للتكاليف المتوقعة لوقف اعتماده على الغاز الطبيعى الروسى، هى دون التكلفة الحقيقية بمليارات اليورو، ما لم تتمكن دول الاتحاد من تسريع تحولها إلى استخدام الطاقة المتجددة على نطاق أوسع. فوفق ما هو متوافر من بيانات حسب تقديرات المركز، إن وقف الاعتماد الأوروبى على الغاز الروسى سيكلف الاتحاد الأوروبى ٢٠٣ مليارات يورو من الإنفاق الإضافى على الطاقة بحلول عام ٢٠٣٠ بالأسعار الحالية، كما يتوقع ارتفاع هذه التكلفة إلى ٢٥٠ مليار يورو فى حال غياب خطة شاملة لتنويع الإمدادات وتعزيز مصادر الطاقة المتجددة.

وبالفعل بدأت المفوضية الأوروبية إعداد مقترح سيجرى تداوله بين الدول الأعضاء، ينصب على تعزيز أهدافها فى رفع نسبة استخدام الطاقة النظيفة لعام ٢٠٣٠ إلى ٤٥٪ من ٤٠٪ حاليًا، وذلك عند طرح حزمة لتنفيذ استراتيجية RePower EU الخاصة بها فى ١٨ مايو الجارى. وقد أوكل الاتحاد نهاية أبريل الماضى للذراع التنفيذية للاتحاد؛ تعزيز مصادر الطاقة المتجددة وأهداف توفير الطاقة كجزء من خطة بقيمة ١٩٥ مليار يورو، تستهدف بالخصوص إنهاء اعتماد دول الاتحاد على الوقود الأحفورى الروسى بشكل كامل وعاجل مع حلول عام ٢٠٢٧. ألمانيا التى ذهبت بعيدًا فى طريق الشراكة الاستراتيجية مع موسكو والشركات الروسية العملاقة، بدت منذ أبريل الماضى فى التفافها إلى الجانب الآخر، لتتخذ قرارًا عبر وزارة ماليتها بتخصيص ٣.٢ مليار دولار لتأمين محطات لاستيراد الغاز الطبيعى المسال، فى وقت تعانى فيه أكبر قوة اقتصادية فى أوروبا من عدم توافر بنية تحتية جاهزة لهذا الاستبدال المفاجئ، وذلك بعد اعتماد الحكومة فى برلين خطة استراتيجية تستهدف تخفيف اعتمادها على الغاز الروسى، وتقليص واردات الطاقة الروسية بشكل سريع ومستدام، حسبما أعلن المستشار الألمانى أمام البوندستاج.

هذا الخلل فى الجاهزية دفع الحكومة الألمانية للبحث عن بدائل؛ من خلال الاعتماد على محطات الغاز الطبيعى المسال العائمة، التى قد تسهم فى تعويض عجز الحالة الراهنة، لكنها تظل عالية الكلفة. ففى تمويل إضافى لجأت وزارة المالية الألمانية إلى تخصيص عاجل لمبلغ قدره ٢.٩٤ مليار يورو، لاستئجار حاملات الغاز الطبيعى المسال العملاقة كى تقدم الخدمة بشكل عاجل وتعبر بالحكومة شهور الأزمة، عبر ما تقوم باستيراده من الولايات المتحدة وأستراليا وقطر، حيث تقوم تلك الحاملات بتحويل الغاز الطبيعى المسال الذى يتم تحميله على متن الناقلات من دول الإنتاج، إلى غاز يمكن ضخه عبر شبكة الأنابيب التى أنشئت قبلًا، وكانت ألمانيا تحصل خلالها على ما نسبته ٥٥٪ من احتياجاتها للطاقة من روسيا عبر خطوط أنابيب بحرية. وقد أجرت برلين مباحثات ووقعت اتفاقات مبدئية داخل أروقة الاتحاد الأوروبى، على أن تعوض تلك الدول خلال الشهور الجارية، هذا الأمر عبر هولندا والنرويج، على أن تقوم برلين باستئجار ٥ سفن عملاقة «محطات إسالة عائمة»، تتمركز فى موانئ بحر الشمال أو بحر البلطيق فى دول صديقة، للقيام بخدمة تزويد ألمانيا وغيرها من الدول التى لا تمتلك بنية تحتية لمحطات إسالة برية، كى يعبروا فترة باتت تمثل هاجسًا مبكرًا لهم جميعًا وهى شهور الشتاء المقبل، الذى بات مرجحًا أن الصراع أو ما بعده على الأقل سيطال هذا الربع الأخير من العام الجارى.

لكن إجراء من هذا النوع يظل استثنائيًا ويبقى فقط فى دائرة مواجهة حالة طارئة، فالتحدى بمفهومه الشامل أكبر وأكثر تعقيدًا من مجابهته على هذا النحو، فروسيا تعد منذ سنوات منتجًا رئيسيًا للوقود الأحفورى وأسهمت العام الماضى بحوالى ٤٥٪ من واردات الغاز وحده لدول من الاتحاد الأوروبى، واليوم يواجه هذا التكتل ضغوطًا جراء تنامى الأحداث لفرض عقوبات على واردات النفط والغاز الروسية. تجلى ذلك فيما اعتبرت المفوضية الأوروبية مؤخرًا؛ أن رضوخ بعض من الدول الأوروبية لشرط موسكو بتسديد ثمن المحروقات الروسية بالروبل وفقًا للآلية التى حددها الكرملين، يمثل «التفافًا» على العقوبات الأوروبية، فى تفسير يتعارض مع رغبة الكثير من دول الاتحاد بالحفاظ على وارداتها من هذه المحروقات. هذه الآلية الروسية استحدثت نظام دفع جديدًا يجرى على مرحلتين، فى المرحلة الأولى يحول المبلغ باليورو أو الدولار وفقًا لما هو منصوص عليه فى عقد الشراء، إلى حساب فى مصرف «غازبروم بنك»، على أن يتم فى المرحلة الثانية تحويل هذا المبلغ إلى الروبل الروسى فى حساب آخر داخل نفس المصرف، خاصة أن ما يقارب ٩٧٪ من العقود المبرمة بين الدول الأوروبية وشركة «غازبروم» الروسية مقومة باليورو أو الدولار.

خلال أسابيع قليلة مضت؛ لم ينصع عديد من شركات الطاقة الأوروبية إلى محاولات التضييق من قبل الاتحاد، واضطر إلى فتح حسابات بالروبل تخوفًا من تناقص الإمداد، خاصة بعد قرار الكرملين الصارم بأن تقوم الدول «غير الصديقة» بدفع ثمن الغاز والنفط الروسى بالروبل. هذا يمضى بالسباق إلى مناطق غير معلوم من سيصل فيها لكسر إرادة الطرف الآخر، فى ظل قضية حيوية على هذا النحو، لا يتصور إمكانية الوصول لتفكيك تحدياتها فى وقت قريب، وكلا الطرفين يدرك وضعيتها كسلاح حقيقى فى يد كل طرف، يشهره ويستخدمه وفق ما تقتضيه تفاعلات الصراع الضارى.